يقول الفقير : البناء إما لدرس العلم الظاهر وإما لتعليم علم الباطن فإذا كان بناء المدارس من البدعة الحسنة فليكن بناء الخانقاه منها أيضاً بل بناء الخانقاه أشرف لشرف
٥١٩
معلومه فمن قال إنه ليس في مكة والمدينة خانقاه فما هذه الخوانق في البلاد الرومية وغيرها ونهي عن الخانقاه والتردد إليه لجمعية الذكر وإصلاح الحال بالخلوة والرياضة فإنما قاله من جهله وحماقته ونهي عن ضلالته وشقاوته فهو ليس بآمر بالمعروف ولا ناه عن المنكر بل بالعكس كما لا يخفى ولقد كثر أمثال هذا المنكر الطاعن في هذا الزمان مع أنهم لا حجة لهم ولا برهان والله المستعان.
وقال القشيري : الآمرون والناهون هم الذين يدعون الخلق إلى الله تعالى ويحذرونهم عن غير الله يتواصون بالإقبال على الله وترك الاشتغال بغير الله ثم إنه إنما تخللت الواو الجامعة بين الآمرون والناهون للدلالة على أنهما في حكم خصلة واحدة لا يعتبر أحدهما بدون الآخر وعلى هذا فثامن الأوصاف هو قوله :﴿وَالْحَـافِظُونَ﴾ وواوه واو الثمانية وقيل : الصفة الثامنة هي قوله :﴿وَالنَّاهُونَ﴾ وواوه واو الثمانية وذلك أن العرب إذا ذكروا أسماء العدد سبيل التعداد يقولون : واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة ثم يدخلون الواو على الثمانية ويقولون وثمانية تسعة عشرة للإيذان بأن الأعداد قد تمت بالسابع من حيث إن السبعة هو العدد التام وأن الثامن ابتداء تعداد آخر.
قال القرطبي : هي لغة فصيحة لبعض العرب وعليها قوله :﴿ثَيِّبَـاتٍ وَأَبْكَارًا﴾ (التحريم : ٥) وقوله :﴿وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ (الكهف : ٢٢) وقوله :﴿وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ (الزمر : ٧٣) لأن أبواب الجنة ثمانية وإليه ذهب الحريري في "درة الغواص" وغيره من العلماء.
وقال النسفي في تفسيره المسمى "بالتيسير" لا أصل لهذا القول عند المحققين فليس في هذا العدد ما يوجب ذلك والاستعمال على الاطراد كذلك قال الله تعالى :﴿الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَـامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ﴾ (الحشر : ٢٣) بغير واو وقال تعالى :﴿وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَّهِينٍ﴾ (القلم : ١٠) الآية بغير واو في الثامنة ﴿وَالْحَـافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾ أي : فيما بينه وعينه من الحقائق والشرائع عملاً وحملاً للناس عليه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٠٤
وقال القشيري : هم الواقفون حيث وقفهم الله الذين يتحركون إذا حركهم ويسكنون إذا سكنهم ويحفظون مع الله أنفاسهم.
ثم إنه لما كانت التكاليف الشرعية غير منحصرة فيما ذكر بل لها أصناف وأقسام كثيرة لا يمكن تفصيلها وتبينها إلا في مجلدات.
ذكر الله تعالى سائر أقسام التكاليف على سبيل الإجمال بقوله :﴿وَالْحَـافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾ والفقهاء ظنوا أن الذي ذكروه في بيان التكاليف واف وليس كذلك لأن الأفعال المكلفين قسمان أفعال الجوارح وأفعال القلوب وكتب الفقه مشتملة على شرح أقسام التكاليف المتعلقة بأعمال الجوارح.
وأما التكاليف المتعلقة بأعمال القلوب فليس في كتبهم منها إلا قليل نادر وبعض مباحثها مدون في الكتب الكلامية والبعض الآخر منها فصله الإمام الغزالي وأمثاله في علم الأخلاق ومجموعها مندرج في قوله تعالى :﴿وَالْحَـافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾ (شيخ أحمد غزالي برادرش امام محمد غزالي كفت جمله علم ترابد وكله آورده ام التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله).
قال الحدادي : وهذه الصفة من أتم ما يكون من المبالغة في وصف العباد بطاعة الله والقيام بأوامره والانتهاء عن زواجره لأن الله تعالى بين حدوده في الأمر والنهي وفيما ندب إليه فرغب إليه أو خير فيه وبين ما هو الأولى في مجرى موافقة الله تعالى فإذا قام العبد بفرائض الله تعالى وانتهى إلى ما أراد الله منه كان من الحافظين لحدود الله كما روي عن خلف بن أيوب أنه أمر
٥٢٠
امرأته أن تمسك عن إرضاع ولده في بعض الليل وقال قد تمت له السنتان فقيل له لو تركتها حتى ترضعه هذه الليلة قال فأين قوله تعالى :﴿وَالْحَـافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾ ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يعني : هؤلاء الموصوفين بتلك الفضائل.
ووضع المؤمنين موضع ضميرهم للتنبيه على أن إيمانهم دعاهم إلى ذلك وأن المؤمن الكامل كان كذلك وحذف المبشر به للتعظيم كأنه قيل وبشرهم بما يجل عن إحاطة الإفهام وتعبير الكلام وأعلى ذلك رؤية الله تعالى في دار السلام.
واعلم أن كل عمل له جزاء مخصوص يناسبه كالصوم مثلاً جزاؤه الأكل والشرب كما قال تعالى :﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِياـاَا بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِى الايَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ (الحاقة : ٢٤) وقس على هذا باقي الأعمال واجتهد في تحصيل حسن الحال وفقنا الله وإياكم إلى أسباب مرضاته.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٠٤
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٢١


الصفحة التالية
Icon