﴿مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا﴾ بالله وحده أي ما صح لهم وما استقام في حكم الله تعالى وحكمته ﴿أَن يَسْتَغْفِرُوا﴾ أي : يطلبوا المغفرة ﴿لِّلْمُشْرِكِينَ﴾ به سبحانه.
﴿وَلَوْ كَانُوا﴾ أي : المشركون ﴿أُوْلِى قُرْبَى﴾ أي : ذوي قرابة لهم ﴿مِّنا بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ﴾ أي : ظهر للنبي عليه السلام والمؤمنين ﴿إِنَّهُمْ﴾ أي : المشركين ﴿أَصْحَـابِ الْجَحِيمِ﴾ أي : أهل النار بأن ماتوا على الكفر أو نزل الوحي بأنهم يموتون على ذلك.
روي أنه لما مرض أبو طالب وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين وبعد مضي عشر سنين من بعثته عليه السلام وبلغ قريشاً اشتداد مرضه قال بعضهم لبعض إن حمزة وعمر قد أسلما وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا فإنا والله ما نأمن أن يسلبوا أمرنا وفي رواية إنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا شيء، أي قتل محمد فتعيرنا العرب ويقولون تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه فمشى إليه أشرافهم منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وأمية بن خلف وأبو سفيان فإنه أسلم ليلة الفتح فأرسلوا رجلاً فاستأذن لهم على أبي طالب فقال هؤلاء أشراف قومك يستأذنون عليك قال أدخلهم فدخلوا عليه فقالوا يا أبا طالب أنت سيدنا وكبيرنا وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك فادعه فخذله منا وخذلنا منه ليدعنا وديننا وندعه ودينه فبعث إليه عليه السلام أبو طالب فجاء ولما دخل عليه السلام على أبي طالب وكان بين أبي طالب وبين القوم فرجة تسع الجالس فخشي أبو جهل أن يجلس النبي عليه السلام في تلك الفرجة فيكون أرقى منه وثب لعنه الله فجلس فيها فلم يجد عليه السلام مجلساً قريباً إلى أبي طالب فجلس عند الباب فقال أبو طالب لرسول الله عليه السلام يا ابن أخي هؤلاء أشراف قومك أعطهم ما سألوك فقد أنصفوك سألوا أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك، فقال عليه السلام :"أرأيتكم إن أعطيتكم ما سألتم فهل تعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب ويدين لكم بها العجم"؟ أي يطيع ويخضع فقال أبو جهل نعطيكها وعشراً معها فما هي قال :"تقولون لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه" فصفقوا بأيديهم ثم قالوا سلنا يا محمد غير هذه الكلمة فقال :"لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها" ثم قال : بعضهم لبعض والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً مما تريدون فامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه ثم تفرقوا، وعند ذلك قال عليه السلام :"أي عم فأنت فقلها أشهد لك
٥٢١
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٢١
بها عند الله" فقال : والله يا ابن أخي لولا مخافة العار عليك وعلى بني أبيك من بعدي وأن تظن قريش أني إنما قلتها خوفاً من الموت لقلتها فلما أبى عن كلمة التوحيد قال عليه السلام :"لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنه" وذلك لغلبة همته على مغفرته لأنه كان يحفظه عليه السلام وينصره ولما مات نالت قريش من رسول الله من الأذى ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبي طالب حتى أن بعض سفهاء قريش نثر على رأس النبي عليه السلام التراب فدخل بيته والتراب على رأسه فقام إليه بعض بناته وجعلت تزيله عن رأسه وتبكي ورسول الله يقول لها :"لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك" فبقي عليه السلام يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول هذه الآية، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سأل عن أبويه أيهما أقرب به عهداً فقيل له أمك آمنة فقال :"هل تعلمون موضع قبرها لعلي آتيه فأستغفر لها فإن إبراهيم عليه السلام استغفر لأبويه" فقال المسلمون : ونحن أيضاً نستغفر الله لآبائنا وأهلينا فانطلق رسول الله، وذلك في سنة الفتح فانتهى إلى قبر أمه في الأبواء منزل بين مكة والمدين وذلك أنه عليه السلام ولد بعد أن توفي أبوه عبد الله ودفن بالمدينة لما أنه قد خرج إليها لحاجة فأدركه الموت هناك وكان عليه السلام مع أمه آمنة فلما بلغ ست سنين خرجت آمنة إلى أخوالها بالمدينة تزورهم ثم رجعت به إلى مكة فلما كانت بالأبواء توفيت هناك وقيل دفنت بالحجون ويمكن الجمع بينهما بأنها دفنت أولاً بالأبواء ثم نقلت من ذلك المحل إلى مكة كما في "السيرة الحلبية" فلما جلس عليه السلام عند قبر أمه ناجى طويلاً ثم بكى بكاء شديداً فبكينا لبكائه فقلنا يا رسول الله ما الذي أبكاك قال :"استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي فاستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي وأنزل عليّ الآيتين" آية ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ﴾ وآية ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ﴾ قال بعضهم : لا مانع من تكرر سبب النزول فيجوز أن تنزل الآيتان لما استغفر لأمه ولما استغفر لعمه.


الصفحة التالية
Icon