يقول الفقير سامحه القدير : فيه بعد لأنه إن سبق النزول لاستغفار أمه فكيف يبقى النبي عليه السلام على استغفار عمه وقد ثبت أن هذه السورة الكريمة من آخر القرآن نزولاً وكذا العكس ومن ادعى الفرق بين الاستغفارين فعليه البيان.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٢١
﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لابِيهِ﴾ بقوله ﴿وَاغْفِرْ لابِى﴾ (الشعراء : ٨٦) أي : بأن توفقه للإيمان وتهديه إليه ما يلوح به تعليله بقوله :﴿إِنَّه كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ﴾ (الشعراء : ٨٦) ﴿إِلا عَن مَّوْعِدَةٍ﴾ استثناء مفرغ من أعم العلل أي لم يكن استغفاره لأبيه آزر ناشئاً عن شيء من الأشياء إلا عن موعدة.
﴿وَعَدَهَا﴾ إبراهيم ﴿إِيَّاهُ﴾ أي : أباه بقوله :﴿لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ (الممتحنة : ٤) وقوله :﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ (مريم : ٤٧) بناء على رجاء إيمانه لعدم تبين حقيقة أمره.
﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ﴾ أي : لإبراهيم بأن أوحي إليه أنه مصر على الكفر غير مؤمن أبداً وقيل بأن مات على الكفر والأول هو الأنسب بقوله ﴿أَنَّه عَدُوٌّ﴾ فإن وصفه بالعداوة مما يأباه حالة الموت.
﴿تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ أي : تنزه عن الاستغفار له وتجانب كل التجانب.
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لاوَّاهٌ﴾ لكثير التأوه وهو أن يقول الرجل عند التضجر والتوجع آه من كذا أو يقول آوه بالمد والتشديد وفتح الواو وسكون الهاء لتطويل الصوت بالشكاية والأواه الخاشع المتضرع، وقيل : إنه كلما ذكر تقصيراً أو ذكر له شيء من شدائد الآخرة كان يتأوه إشفاقاً واستعظاماً كما قال كعب الأواه
٥٢٢
هو الذي إذا ذكرت عنده النار قال : آه وقيل معناه الموقر بلغة الحبشة إلا أن من قال لا يجوز أن يكون في القرآن شيء غير عربي قال هذا موافق للعربية بلغة الحبشة والملائم أنه كناية عن كمال الرأفة ورقة القلب لأنه ذكر في معرض التعليل لاستغفاره لأبيه المشرك.
والمعنى أنه مترحم متعطف ولفرط رحمته ورأفته كان يتعطف لأبيه الكافر.
﴿حَلِيمٌ﴾ صبور على الأذية ولذلك كان يحلم على أبيه ويتحمل أذاه ويستغفر له مع صعوبة خلقه وغلظ قلبه وقوله :﴿لارْجُمَنَّكَ﴾ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما استغفر لعمه وهو مشرك كما استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه المشرك ثم نهي عن الاستغفار للكافر نزلت هذه الآية لبيان عذر من استغفر لأسلافه المشركين قبل المنع عنه، وهو قوله تعالى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٢١
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمَا﴾ أي : ليس من عادته أن يصفهم بالضلال عن طريق الحق ويجري عليهم أحكامه ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَاـاهُمْ﴾ للإسلام ﴿حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم﴾ بالوحي صريحاً أو دلالة.
﴿مَّا يَتَّقُونَ﴾ أي : يجب اتقاؤه من محظورات الدين فلا ينزجروا عما نهوا عنه وأما قبل ذلك فلا يسمى ما صدر عنهم ضلالاً ولا يؤاخذون به.
وفيه دليل على أن العاقل غير مكلف بما لا يستبد بمعرفته العقل.
﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمُ﴾ أي : إنه تعالى عليم بجميع الأشياء التي من جملتها حاجتهم إلى بيان قبح ما لا يستقل العقل معرفته فبين لهم ذلك كما فعل ههنا.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ من غير شريك له فيه.
قال جلال الدين الرومي قدس سره :
واحد اندر ملك واورا يا رنى
بندكانش را جز اوسالارنى
نيست خلقش را دكركس مالكى
شر كتش دعوى كند جزها لكى
﴿يُحْى وَيُمِيتُ﴾ أي : يحيي الأموات ويميت الأحياء، أي يوجد الحياة والموت في الأرض والأجساد وقلوب الأمم.
﴿وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ أي : حال كونكم متجاوزين ولايته ونصرته.
﴿مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ﴾ لما منعهم من الاستغفار للمشركين وإن كانوا أولي قربى وضمن ذلك التبري منهم رأساً بين لهم أن الله مالك كل موجود ومتولي أمره والغالب عليه ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصرة إلا منه تعالى ليتوجهوا إليه بشراشرهم ويتبرؤوا مما عداه حتى لا يبقى لهم مقصود فيما يأتون ويذرون سواه.
بقى ههنا أن الجم الغفير من العلماء ذهبوا إلى أن النبي عليه السلام مر على عقبة الحجون في حجة الوداع فسأل الله أن يحيي أمه فأحياها فآمنت به وردها الله تعالى أي روحها.
قال في "إنسان العيون" : لا يقال على ثبوت هذا الخبر وصحته التي صرح بها غير واحد من الحفاظ ولم يلتفتوا إلى من طعن فيه كيف ينفع الإيمان بعد الموت ولا يعترض لأنا نقول هذا من جملة خصوصياته صلى الله عليه وسلّم
وفي كلام القرطبي قد أحيا الله تعالى على يده جماعة من الموتى، فإذا ثبت ذلك فما يمنع إيمان أبويه بعد إحيائهما ويكون زيادة في كرامته وفضيلته ولو لم يكن إحياء أبويه نافعاً لإيمانهما وتصديقهما لما أحييا، كما أن رد الشمس لو لم يكن نافعاً في بقاء الوقت لم ترد والله أعلم انتهى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٢١


الصفحة التالية
Icon