﴿لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو العفو عن إذنه للمنافقين في التخلف عنه وهذا الأذن وإن صدر عنه عليه السلام وحده إلا أنه أسند إلى الكل لأن فعل البعض يسند إلى الكل لوقوعه فيما بينهم كما يقال بنو فلان قتلوا زيداً وهذا الذنب من قبيل الزلة لأن الأنبياء معصومون من الكبائر والصغائر عندنا لأن ركوب الذنوب مما يسقط حشمة من يرتكبها وتعظيمه من قلوب المؤمنين والأنبياء يجب أن يكونوا مهابين موقرين، ولذا عصموا من الأمراض المنفرة كالجذام وغيره فليس معنى الزلة أنهم زلوا عن الحق إلى الباطل ولكن معناها أنهم زلوا عن الأفضل إلى الفاضل وأنهم يعاتبون به لجلال قدرهم ومكانتهم من الله تعالى كما قال أبو سعيد الخراز قدس سره : حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وقال السلمي : ذكر توبة النبي عليه السلام لتكون مقدمة لتوبة الأمة وتوبة التابع إنما تقبل التصحيح بالمقدمة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٢١
وقال في "التأويلات النجمية" : التوبة فضل من الله ورحمة مخصوصة به لينعم بذلك على عباده فكل نعمة وفضل يوصله الله إلى عباده يكون عبوره على ولاية النبوة فمنها يفيض على المهاجرين والأنصار وجميع الأمة، فلهذا قال :﴿لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ﴾ ﴿وَالْمُهَـاجِرِينَ وَالانصَارِ﴾ يدل عليه قوله عليه السلام :"ما صب الله في صدري شيئاً إلا وصببته في صدر أبي بكر رضي الله عنه" والأنصار جمع نصير كشريف وأشراف أو جمع ناصر كصاحب وأصحاب وهم عبارة عن الصحابة الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أهل المدينة، وهو اسم إسلامي سمى الله تعالى به الأوس والخزرج ولم يكونوا يدعون بالأنصار قبل نصرتهم لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا قبل نزول القرآن بذلك وحبهم واجب وهو علامة الإيمان، وفي الحديث :"آية المؤمن حب الأنصار، وحب الأنصار آية الإيمان، وآية النفاق بغض الأنصار" كذا في "فتح القريب" والمهاجرون أفضل من الأنصار، كما يدل عليه قوله عليه السلام :"لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار" قال ابن الملك المراد منه إكرام الأنصار فإنه لا رتبة بعد الهجرة أعلى من نصرة الدين انتهى.
وباقي الكلام سبق عند قوله تعالى :﴿وَالسَّـابِقُونَ الاوَّلُونَ مِنَ الْمُهَـاجِرِينَ وَالانصَارِ﴾ (التوبة : ١٠٠) الآية فارجع إلى تفسيرها ﴿الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ أي : النبي صلى الله عليه وسلّم ولم يتخلفوا عنه ولم يخلوا بأمر من أوامره.
﴿فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ أي : وهو الزمان الذي وقع فيه غزوة
٥٢٥
تبوك فإنه قد أصابتهم فيها مشقة عظيمة من شدة الحر وقلة المركب حتى كانت العشرة تعتقب على بعير واحد ومن قلة الزاد، حتى قيل أن الرجلين كانا يقتسمان تمرة وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء المتغير ومن قلة الماء حتى شربوا الفظ، وهو ماء الكرش، عن عمر رضي الله عنه خرجنا في قيظ شديد وأصابنا فيه عطش شديد حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه.
قال الكاشفي :(وبرطوبات أجواف وامعاى آن دهن خويش راتر ميساختند) ولذلك سميت غزوة العسرة وسمي من جاهد فيها بجيش العسرة وهذه صفة مدح لأصحاب النبي عليه السلام باتباعهم إياه في وقت الشدة ومع ذلك فقد كانوا محتاجين إلى التوبة فما ظنك بغيرهم ممن لم يقاس ما قاسوه ﴿مِنا بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ﴾ أي : يميل قلوب طائفة منهم عن الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأن هموا أن ينصرفوا في غير وقت الانصراف من غير أن يؤذن لهم في ذلك لشدائد أصابتهم في تلك الغزوة لكنهم صبروا واحتسبوا وندموا على ما ظهر على قلوبهم فتاب الله عليهم وفي كاد ضمير الشأن وجملة يزيغ في محل النصب على أنها خبر كاد وخبر كاد إذا كان جملة لا بد أن يكون فيه ضمير يعود على اسمها إلا إذا كان اسمها ضمير الشان فحينئذٍ لا يجب أن يكون فيه ضمير يعود إلى اسمها.
﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ أي : تجاوز عن ذنبهم الذي فرط منهم وهو تكرير للتأكيد وتنبيه على أنه يتاب عليهم من أجل ما كابدوا من العسرة.
قال الحافظ :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٢١
مكن زغصه شكايت كه در طريق طلب
براحتى نرسيد آنكه زحمتى نكشيد