﴿إِنَّهُ﴾ أي : الله تعالى ﴿بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ استئناف تعليل فإن صفة الرأفة والرحمة من دواعي التوبة والعفو ويجوز كون الأول عبارة عن إزالة الضرر، والثاني عن إيصال المنفعة وأن يكون أحدهما للسوابق والآخر للواحق ومن كمال رحمته إرسال حبيبه وإظهار معجزاته.
روي أنهم شكوا للنبي عليه السلام عسرة الماء في غزوة تبوك فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله إن الله تعالى عودك في الدعاء خيراً فادع الله لنا قال :"أتحب ذلك" قال نعم فرفع عليه السلام يديه فلم يرجعهما حتى أرسل الله سحابة فمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا ما يحتاجون إليه وتلك السحابة لم تتجاوز العسكر.
وروي أنهم نزلوا يوماً في غزوة تبوك على غير ماء بفلاة من الأرض وقد كادت عتاق الخيل والركاب تقع عطشاً فدعا عليه السلام وقال :"أين صاحب الميضاة" قيل : هو ذا يا رسول الله قال :"جئني بميضاتك" فجاء بها وفيها شيء من ماء فوضع أصابعه الشريفة عليها فنبع الماء بين أصابعه العشر وأقبل الناس واستقوا وفاض الماء حتى رووا ووروا خيلهم وركابهم وكان في العسكر من الخيل اثنا عشر ألف فرس ومن الإبل خمسة عشر ألف بعير والناس ثلاثون ألفاً وفي رواية سبعون.
قال السلطان سليم الأول : من الخواقين العثمانية :
كوثر نمى زشمه احسان رحمتش
آب حيات قطره ازام مصطفاست
روى أنهم لما أصابهم في غزوة تبوك مجاعة قالوا يا رسول الله لو أذنت لنا نحرنا نواضحنا وادّهنا فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله إن فعلت فني الظهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم
٥٢٦
وادع الله لهم فيها بالبركة لعل الله أن يجعلها في ذلك فقال عليه السلام :"نعم" فدعا بنطع فبسطه ثم دعاهم بفضل أزوادهم فجعل الرجل يأتي بكف من ذرة ويجيء الآخر بكف من تمر ويجيء الآخر بميرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير فدعا عليه السلام بالبركة ثم قال :"خذوا في أوعيتكم" فأخذوا حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤوه وأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة فقال صلى الله عليه وسلّم "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بها عبد غير شاك إلا وقاه الله النار".
قال الشيخ المغربي قدس سره :
كل توحيد نرويد ززمينى كه درو
خار شرك وحدو كبر ورياو كين است
والإشارة في الآية :﴿لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ﴾ أي : نبي الروح بمنزلة النبي يأخذ بإلهام الحق حقائق الدين ويبلغها إلى أمته من القلب والنفس والجوارح والأعضاء.
فالمعنى أفاض الله على نبي الروح ومهاجري صفاته الذين هاجروا معه من مكة الروحانية إلى المدينة الجسدانية والأنصار من القلب والنفس وصفاتها وهم ساكنو مدينة الجسد فيوضات الرحمة.
﴿الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ الروح ساعة رجوعه إلى عالم العلو بالعسرة إذ هم نشؤوا في عالم السفل يعسر عليهم السير إلى عالم العلو من بعد ما كاد يزيغ القلوب فريق من النفس وصفاتها وهواها فإن ميلها طبعاً إلى عالم السفل ثم تاب عليهم بإفاضة الفيض الرباني لتعليهم عن طبعهم إنه بهم رؤوف رحيم ليجعلهم بإكسير الشريعة قابلين للرجوع إلى عالم الحقيقة كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٢١
﴿وَعَلَى الثَّلَـاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ أي : وتاب الله على الثلاثة الذين أخر أمرهم ولم يقطع في شأنهم بشيء إلى أن نزل فيهم الوحي وهم كعب بن مالك الشاعر ومرادة بن الربيع العنبري وهلال بن أمية الأنصاري يجمعهم حروف كلمة "مكة" وآخر أسماء آبائهم "عكة".
﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارْضُ﴾ غاية للتخفيف أي : أخر أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض.
﴿بِمَا رَحُبَتْ﴾ أي : برحبها وسعتها لأعراض الناس حتى عن المكالمة معهم ولو بالسلام ورده وكانوا يخافون أن يموتوا فلا يصلي النبي عليه السلام ولا المؤمنون على جنازتهم وهو مثل لشدة الحيرة كأنه لا يستقر به قرار ولا تطمئن له دار ﴿وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ﴾ أي : امتلأت قلوبهم بفرط الوحشة والغم بحيث لم يبق فيها ما يسع شيئاً من الراحة والأنس والسرور عبر عن الراحة والسرور بضمير عليهم حيث قيل : ضاقت عليهم تنبيهاً على أن انتفاء الراحة والسرور بمنزلة انتفاء ذواتهم.
﴿وَظَنُّوا أَن لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ﴾ أي : علموا وأيقنوا أن لا ملاذ ولا خلاص من سخطه تعالى إلا إلى استغفاره فظنوا بمعنى علموا لأنه تعالى ذكر هذا الوصف في معرض المدح والثناء وذا لا يكون إلا مع علمهم بذلك.
وقوله أن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر ولا مع ما في حيزها خبران ومن الله خبر لا وإن مع ما في حيزها ساد مسد مفعولي ظنوا وإلا استثناء من العام المحذوف أي وعلموا أن الشان لا التجاء من سخط الله إلى أحد إلا إليه.
قال بعض المتقدمين من تظاهرت عليه النعم فليكثر الحمدومن كثرت همومه فليكثر الاستغفار.


الصفحة التالية
Icon