﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً﴾ اللام لتأكيد النفي أي ما صح وما استقام لهم أن ينفروا أي يخرجوا جميعاً لنحو غزو أو طلب علم كما لا يستقيم لهم أن يتثبطوا جميعاً فإن ذلك مخل بأمر المعاش ﴿فَلَوْلا نَفَرَ﴾ (س را بيرون نرود) فلولا تحضيضية مثل هلا وحرف التحضيض إذا دخل على الماضي يفيد التوبيخ على ترك الفعل والتوبيخ إنما يكون على ترك الواجب فعلم منه أن الفعل واجب وأن قوله فلولا نفر معناه الأمر بالنفير وإيجابه ﴿مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ﴾ أي : من كل جماعة كثيرة كقبيلة وأهل بلدة جماعة قليلة.
ودلت الآية على الفرق بين الفرقة والطائفة بأن الفرقة أكثر من الطائفة لأن القياس أن يتنزع القليل من الكثير والطائفة تتناول الواحد فما فوقه.
﴿لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ﴾ ليتكلفوا الفقاهة في الدين ويتجشموا مشاق تحصيلها والفقه معرفة أحكام الدين.
﴿وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾ وليجعلوا غاية سعيهم ومعظم غرضهم من الفقاهة إرشاد القوم وإنذارهم وذكر الإنذار دون التبشير لأنه أهم والتخلية بالمعجمة أقدم من التحلية بالمهملة.
﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ إرادة أن يحذر قومهم عما ينذرون منه.
وفي الآية دليل على أن التفقه والتذكير من فروض الكفاية وأنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم الاستقامة والإقامة لا الترفع على الناس بالتصدر والترأس والتبسط في البلاد بالملابس والمراكب والعبيد والإماء كما هو ديدن أبناء الزمان والله المستعان.
فينبغي أن يطلب المتعلم رضى الله والدار الآخرة وإزالة الجهل عن نفسه وعن سائر الجهال وإحياء الدين وإبقاء الإسلام فإن بقاء الإسلام بالعلم ولا يصح الزهد والتقوى بالجهل.
علم آمد دليل آكاهى
جهل برهان نقص وكمراهى
يش ارباب دانش وعرفان
كى بود اين تمام وآن نقصان
وينبغي لطالب العلم أن ينوي به الشكر على نعمة العقل وصحة البدن وسلامة الحواس عملاً بقوله تعالى :﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنا بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْـاًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ وَالافْـاِدَةَا لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (النمل : ٧٨) وينبغي لطالب العلم أن يختار الأستاذ الأعلم والأورع والأسن بعد التأمل التام كما اختار أبو حنيفة رضي الله عنه حماداً قال دخلت البصرة فظننت أن لا أسأل عن شيء إلا أجبت عنه فسألوني عن أشياء لم يكن عندي جوابها فحلفت على نفسي أن لا أفارق حماداً فصحبته عشرين سنة وما صليت قط إلا ودعوت لشيخي حماد مع والدي ففي
٥٣٥
أنفاس الأساتذة الصالحين ودعوات الرجال الكاملين تأثيرات عجيبة.
كما حكي أن أبا أبي حنيفة ثابتاً أهدى الفالوذج لعلي بن أبي طالب يوم النيروز ويوم المهرجان فدعا له ولأولاده بالبركة وكان ثابت يقول أنا في بركة دعوة صدرت من علي رضي الله عنه حتى كان يفتخر أولاده العلماء بذلك فإذا وجد الطالب الأستاذ العامل العالم فعليه أن يختار من كل علم أحسنه وأنفعه في الآخرة فيبدأ بفرض العين وهو علم ما يجب من اعتقاد وفعل وترك ظاهراً وباطناً ويقال له علم الحال أي العلم المحتاج إليه في الحال.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٢١
قال العز بن عبد السلام : العلم الذي هو فرض لازم ثلاثة أنواع : الأول : علم التوحيد فالذي يتعين عليك منه مقدار ما تعرف به أصول الدين فيجب عليك أولاً أن تعرف المعبود ثم تعبده وكيف تعبد من لا تعرفه بأسمائه وصفات ذاته وما يجب له وما يستحيل في نعته فربما تعتقد شيئاً في صفاته يخالف الحق فتكون عبادتك هباء منثوراً.
والنوع الثاني : علم السر وهو ما يتعلق بالقلب ومساعيه فيفترض على المؤمن علم أحوال القلب من التوكل والإنابة والخشية والرضى فإنه واقع في جميع الأحوال واجتناب الحرص والغضب والكبر والحسد والعجب والرياء وغير ذلك وهو المراد بقوله عليه السلام :"طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة" ؛ إذ لو أريد بالعلم به التوحيد فهو حاصل ولو أريد به الصلاة فيجوز أن يتأهلها شخص وقت الضحى ويموت قبل الظهر فلا يستقيم العموم المستفاد من لفظ كل وأما غيرهما فلا يظهر فلم يبق إلا المعاملة القلبية إذ فرضية علمها متحققة في كل زمان ومكان في كل شخص.
والنوع الثالث : علم الشريعة وهو ما يجب عليك فعله من الواجبات الشرعية فيجب عليك علمه لتؤديه على جهة الشرع كما أمرت به وكذا علم كل ما يلزمك تركه من المناهي الشرعية لتتركه وذلك شامل للعبادات والمعاملات فكل من اشتغل بالبيع والشراء وأيضاً بالحرفة فيجب عليه علم التحرز عن الحرام في معاملاته وفيما يكسبه في حرفته وأما حفظ ما يقع في بعض الأحايين ففرض على سبيل الكفاية.
والعلوم الشرعية خمسة : الكلام والتفسير والحديث والفقه وأصول الفقه.