قال في "التأويلات النجمية" :﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ لتربيتهم في الدين المتين بالرفق كما قال عليه السلام :"إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه بالرفق" وبالرحمة يعفو عنهم سيئاتهم كما أمره الله تعالى بقوله :﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ﴾ (المائدة : ١٣) وفي قوله :﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ في حق نبيه عليه السلام، وفي قوله لنفسه تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحج : ٦٥) دقيقة لطيفة شريفة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما كان مخلوقاً كانت رأفته ورحمته مخلوقة فصارت مخصوصة بالمؤمنين لضعف الخلقة وإن الله تعالى لما كان خالقاً كانت رأفته ورحمته قديمة فكانت عامة للناس لقوة خالقيته كما قال :﴿وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ﴾ فمن تداركته الرأفة والرحمة الخالقية من الناس كان قابلاً للرأفة والرحمة النبوية، لأنها كانت من نتائج الرأفة والرحمة الخالقية كما قال :﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ﴾ (آل عمران : ١٥٩) انتهى كلام "التأويلات".
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٢١
قال بعض الحكماء : إن الله تعالى خلق محمداً أي روحه وجعل له صورة روحانية كهيئته في الدنيا فجعل رأسه من البركة وعينيه من الحياء وأذنيه من العبرة ولسانه من الذكر وشفتيه من التسبيح ووجهه من الرضى وصدره من الإخلاص وقلبه من الرحمة وفؤاده من الشفقة وكفيه من السخاوة وشعره من نبات الجنة وريقه من عسل الجنة ألا ترى أنه تفل في بئر رومة في المدينة وكان ماؤها زعاقاً
٥٤٤
فصار عذباً ولما أكمله بهذه الصفات أرسله إلى هذه الأمة.
روي أنه لما مات أبو طالب ونالت قريش من النبي عليه السلام ما لم تكن نالته منه في حياته خرج إلى الطائف وهو مكروب مشوش الخاطر مما لقي من قريش من قرابته وعترته خصوصاً من عمه أبي لهب وزوجته أم جميل حمالة الحطب من الهجو والسب والتكذيب يقولون له أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً فجعل أبو بكر يضرب هذا ويدفع هذا ويقول أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وكان خروجه في شوال سنة عشر من النبوة وحده وقيل : معه مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه يلتمس من ثقيف الإسلام رجاء أن يسلموا وأن يناصروه على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه وكان ثقيف أخواله عليه السلام فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى أشراف ثقيف وكانوا إخوة ثلاثة فجلس إليهم وكلمهم فيما جاءهم به فقال أحدهم هو يقطع ثياب الكعبة ولا يسرقها وقال آخر ما وجد الله أحداً يرسله غيرك وقال له الثالث والله لا أكلمك أبداً لئن كنت رسولاً من عند الله كما تقول لأنت أعظم خطراً أي قدراً من أن أرد عليك الكلام ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك فقام عليه السلام من عندهم مأيوساً وقال لهم اكتموا عليّ وكره أن يبلغ قومه ذلك فيشتد أمرهم عليه وقالوا له عليه السلام اخرج من بلدنا وسلطوا عليه سفهاءهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وقعدوا له صفين على طريقه فلما مرّ عليه السلام بين الصفين دقوا رجليه بالحجارة حتى أدموهما وشجوا رأس زيد فلما خلص ورجلاه يسيلان دماً عمد إلى بستان فاستظل في شجرة كرم ودعا بقوله :"اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إن لم يكن لك غضب عليّ فلا أبالي" ثم انطلق عليه السلام وهو مهموم حتى أتى بقرن الثعالب وهو ميقات أهل نجد أو اليمن وبينه وبين مكة يوم وليلة فأرسل الله تعالى جبريل ومعه ملك الجبال فقال إن شئت أطبقت على ثقيف هذين الجبلين فقال عليه السلام :"بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله تعالى لا يشرك به شيئاً" وعند ذلك قال له عليه السلام ملك الجبالة أنت كما سماك ربك رؤوف رحيم.
وفي "المثنوي" :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٢١
بندكان حق رحيم وبر دبار
خوى حق دارنددر اصلاح كارمهربان بى رشوتان يا رى كران
در مقام سخت ودر روز كران
اي سليمان درميان زاغ وباز
حلم حق شو باهمه مرغان بسازاي دوصد بلقيس حلمت رازبون
كه اهد قومي إنهم لا يعلمون
صد هزاران كيميا حق آفريد
كيميائي همو صبر آدم نديد نسأل الله سبحانه أن يلحقنا بأهل الحلم والكرم ويزكينا من سوء الأخلاق والشيم.
﴿فَإِن تَوَلَّوْا﴾ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أي إن أعرضوا عن الإيمان بك وقبول نصحك ولم يتبعوك ﴿فَقُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ﴾ كافيني فإنه يكفيك معرتهم أي المساءة التي تلحقك من قبلهم ويعينك عليهم.
وفيه إشارة إلى أن تبليغ الرسالة من النبي عليه السلام كان موجباً لقربه إلى الله وقبوله إياه فلما بلغ رسالته فقد حصل على القبول من الله وقربته إن قبلوا
٥٤٥
وإن أعرضوا ﴿لا إله إِلا هُوَ﴾ كالدليل على ما قبله.


الصفحة التالية
Icon