واعلم أن الله تعالى لو لم يكن له ود لما هدى عباده، ولما فرح بتوبة عبده المؤمن كما قال صلى الله عليه وسلّم " أفرح بتوبة عبد المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلة عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهب راحلته، فطلبها حتى اشتد عليه الحر والعطش قال : أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه، فلاأشد فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده" فمن أضاع راحلته في برية الهوى بغلبة الغفلة فعليه الرجوع إلى مكانه الأول أعني الفطرة الأولى بالتسليم والموت الاختياري حتى يجد ما أضاعه، وفي الحديث إشارة إلى الطريق من البداية إلى النهاية أما إلى البداية فبقوله عليه السلام فاستيقظ لأن اليقظة ابتداء حال السالك وأما إلى النهاية فبقوله عليه السلام ليموت، لأن الفناء غاية السير إلى الله ثم إن قوله فاستيقظ فإذا راحلته عنده إشارة إلى البقاء بعد الفناء والرجوع إلى البشرية.
ثم اعلم أن التوبة على مراتب، أعلاها الرجوع عن جميع ما سوى الله تعالى إلى الله سبحانه، وهذا المقام يقتضي نسيان المعصية والتوبة عن التوبة
١٧٧
فإن وقت الصفاء يقتضي نسيان الجفاء وأيضاً إذ تجلى الحق للسالك ورأى كل شيء هالكاً إلا وجهه فني الذوات كلها فما ظنك بالأعمال والله تعالى تواب يقبل التوبة إلا أن يكون العبد كذوباً ـ ـ يحكى ـ ـ أن مالك بن دينار مر بشابين يلهوان فوعظهما فقال أحدهما : أنا أسد من الأسود فقال مالك : سيأتيك أسد تكون عنده ثعلباً فمرض الشاب وعاده مالك فبكى الشاب وقال : قد جاء الأسد الذي صرت عنده ثعلباً فقال : مالك تب إلى الله تعالى فإنه تواب فنودى من زاوية البيت جربناه مراراً فوجدناه كذوباً.
وفي "المثنوى" :
توبه آرند وخدا توبه ذير
امر و كيرند او نعم الأمير
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٧٦
[يونس : ٦٨-٣٦]يا شُعَيْبُ} ما نفقه الفقه معرفة غرض المتكلم من كلامه أي : لا نعرف ولا نفهم كثيراً مما تقول أي : كل ما تقول من التوحيد ومن إيفاء الكيل والوزن وغير ذلك، كما في قوله تعالى : وما يتبع أكثرهم إلا ظناً}(يونس : ٣٦) أي : كلهم على أحد الوجهين وذلك استهانة بكلامه واحتقاراً به كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه ما ندري ما تقول، وإلا فشعيب كان يخاطبهم بلسانهم وهم يفهمون كلامه لكن لما كان دعاؤه إلى شيء خلاف ما كانوا عليه وآباؤهم قالوا ما قالوا :﴿وَإِنَّا لَنَرَاـاكَ فِينَا﴾ أي : فيما بيننا ضعيفاً هو في المشهور من ليس له قوة جسمانية أي : لا قوة لك فتمتنع منا إن أردنا بك سوءاً، أو مهيناً لا عز لك وهذا لا يتعلق بالقوة الجسمانية فإن ضعيف الجسم قد يكون وافر الحرمة بين الناس وهو الظاهر لأن الكفرة كانوا يزدرون بالأنبياء وباتباعهم المؤمنين.
وفي}()التأويلات النجمية" :﴿ضَعِيفًا﴾ أي : ضعيف الرأي ناقص العقل وذلك ؛ لأنه كما يرى العاقل السفيه ضعيف الرأي يرى السفيه العاقل ضعيف الرأي.
ولولا رهطك ولولا حرمة قومك ومراعاة جانبهم وقالوا : ذلك كرامة لقومه ؛ لأنهم كانوا على دينهم لا خوفاً منهم لأن الرهط من الثلاثة إلى السبعة أو التسعة أو العشرة وهم ألوف فكيف يخافون من رهطه لرجمناك لقتلناك برمى الحجارة وقد يوضع الرجم موضع القتل وإن لم يكن بالحجارة من حيث إنه سببه ولأن أول القتل وهو قتل قابيل هابيل لما كان بالحجارة سمى كل قتل رجماً وإن لم يكن بها.
قال عمر رضي الله عنه : تعلموا أنسابكم تعرفوا بها أصولكم وتصلحوا بها أرحامكم.
قالوا : ولو لم يكن في معرفة الأنساب إلا الاحتراز بها من صولة الأعداء ومنازعة الأكفاء لكان تعلمها من أحزم الرأي وأفضل الصواب، ألا ترى إلى قول قوم شعيب ولولا رهطك لرجمناك فابقوا عليه لرهطه يقال : أبقيت على فلان إذا أرعيت عليه ورحمته وما أنت علينا بعزيز مكرم محترم حتى تمنعنا عزتك من رجمك بل رهطك هم الأعزة علينا لكونهم من أهل ديننا فإنما نكف عنك للمحافظة على حرمتهم، وهذا ديدن السفيه المحجوج يقابل الحجج والآيات بالسب والتهديد، وتقديم الفاعل المعنوي لإفادة الحصر والاختصاص وإن كان الخبر صفة لا فعلاً وعلينا متعلق بعزيز وجاز لكون المعمول ظرفاً والباء مزيدة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٧٨
وفي التأويلات النجمية يشير إلى أن من كان على الله بعزيز فإنه ليس على الجاهل بعزيز انتهى.
أقول : وذلك لأن العزة والشرف عند الجهلاء بالجاه والمال لا بالدين والكمال، وقد قال النبي عليه السلام : إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم بل ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم يعني : إذا كانت لكم قلوب وأعمال صالحة تكونون مقبولين مطلقاً سواء كانت لكم صور حسنة وأموال فاخرة أم لا وإلا فلا.
وفي المثنوى :
١٧٨
وقت بازى كودكان را زا اختلاف
مى نمايد اين خزفها زرو مال
عارفانش كيميا كر كشته اند
تاكه شد كانها ريشان ونند
باغها وقصرها وآب رود