وهذه حال المقربين فإنهم جعلوا الله تعالى بين أعينهم، وجعلوا الخلق وراء ظهورهم خلاف ما عليه أهل الغفلة، فلم يلتفتوا إلى شيء من الكونين حباتعالى وقصراً للنظر عليه وهم العبيد الأحرار، والناس في حقهم على طبقات، فأما أهل الشقاء فلم يعرفوهم من هم ولم يروهم أصلاً لانطماس بصيرتهم وعدم استعدادهم لهذا الانكشاف، ألا ترى إلى قوم شعيب كيف حجبهم كونه أعمى في الصورة عن رؤية جمال نبوته وظنوا أن لهم أبصاراً ولا بصر له، ولذا عدوه ضعيفاً ولم يعرفوا أنهم عمى في الحقيقة وأن أبصارهم الظاهرة لا تستجلب لهم شرفاً وأن الحق مع أهل الحق سواء ساعده الأسباب الصورية والآلات الظاهرة أولا، فإن الناس مشتركون فيما يجري على ظواهرهم من أنواع الابتلاء مفترقون فيما يرد على بواطنهم من أصناف النعماء، والله تعالى أرسل الأنبياء عليهم السلام إلى الناس الغافلين ليفتحوا عيون بواطنهم من نوم الغفلة، ويدعوهم إلى الله تعالى ووصاله ولقاء جماله، فمن كان له منهم استعداد لهذا الانفتاح رضي بالتربية والإرشاد وقام في طريق الحق بالسعي والاجتهاد، ومن لم يكن له منهم ذلك أبى واستكبر عن أخذ التلقين وامتنع عن الوصول إلى حد اليقين، فبقي في الظلمات كالأعمى لا يدري أين يذهب فيا أيها الأخوان أرجعوا إلى ربكم مع القوافل الروحانية فعن قريب ينقطع الطريق ولا يوجد الرفيق، ونعم ما قال من قال :
خز دلامست شواز مى قدسي ازانك
ما نه درين تيره جام بهر نشست آمديم
ولما جاء أمرنا الذي قدرناه في الأزل من العذاب والهلاك لقوم شعيب فالأمر واحد الأمور نجينا شعيباً قدم تنجيته إيذاناً بسبق الرحمة التي هي مقتضى الربوبية على الغضب الذي يظهر أثره بموجب الجرائم والذين آمنوا معه أي : ونجينا الذي اتبعوا شعيباً في الإيمان وآمنوا كما آمن هو برحمة أزلية صدرت منا في حقهم ومجرد فضل لا بسبب أعمالهم كما هو مذهب أهل السنة، وقال بعضهم : هي الإيمان الذي وفقناهم له.
يقول الفقير : وجه هذا القول أن العذاب والهلاك الذي هو من باب لعدل قد أضيف إلى الكفر والظلم فاقتضى أن يضاف الخلاص، والنجاة الذي هو من باب الفضل إلى الإيمان ولما كان الإيمان، والعمل الصالح أمراً موقوفاً على التوفيق كان مجرد فضل ورحمة فافهم وأخذت الذين ظلموا أنفسهم بالإباء والاستكبار عن قبول دعوة شعيب الصيحة فاعل أخذت والمراد صيحة جبرائيل عليه السلام بقوله موتوا جميعاً.
وفي سورة الأعراف فأخذتهم الرجفة}(الأعراف : ٧٨) أي : الزلزلة ولعلها من روادف الصيحة المستتبعة لتموج الهواء المفضى إليها.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٧٩
عن ابن عباس
١٨٠
رضي الله عنهما "لم يعذب الله أمتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وصالح" وذلك إنه أصابهم حر شديد فخرجوا إلى غيضة لهم فدخلوا فيها فظهرت لهم سحابة كهيئة الظلة فأحدقت بالأشجار وأخذت فيها النار وصاح بهم جبريل ورجفت بهم الأرض فماتوا كلهم واحترقوا فذلك قوله تعالى :﴿فَأَصْبَحُوا﴾ أي : صاروا في ديارهم بلادهم أو مساكنهم جاثمين ميتين لازمين لأماكنهم لإبراح لهم منها.
أي : لا زوال.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٧٩
﴿كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا﴾ أي : لم يقيموا في ديارهم أحياء متصرفين مترددين.
ألا بعداً لمدين أي : هلاكاً لأهل مدين.
واعلم أن بعداً وسحقاً ونحوهما مصادر قد وضعت مواضع أفعالها التي لا يستعمل إظهارها.
ومعنى بعداً بعدوا، أي : هلكوا.
وقوله لمدين بيان لمن نبه عليه بالبعد نحو هيت لك.
قال الكاشفي :(بدانيدكه هلاكيست قوم مدين را ودوري از رحمت من) كما بعدت ثمود أي : هلكت، شبه هلاكهم بهلاكهم لأنهما أهلكتا بنوع من العذاب وهو الصيحة كما مر آنفاً.
والجمهور على كسر العين من بعدت على أنها من بعد يبعد بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع بمعنى هلك يهلك، أرادت العرب أن تفرق بين البعد بمعنى الهلاك وبين البعد الذي هو ضد القرب ففرقوا بينهما بتيغير البناء فقالوا : بعد بالضم في ضد القرب وبعد بالكسر في ضد السلامة والبعد بالضم والسكون مصدر لهما والبعد بفتحتين إنما يستعمل في مصدر مكسور العين.
وفي الآية إشارة إلى أن الكفرة وأهل الهوى أفسدوا الاستعداد الروحاني الفطري في طلب الدنيا واستيفاء شهواتها، والاستكبار عن قبول الحق والهدى، وأدى تمردهم عن الحق وتماديهم في الباطل إلى الهلاك صورة ومعنى، أما صورة فظاهر، وأما معنى فلأنهم أبعدوا عن جوار الله وطيب العيش معه إلى أسفل سافلين القطيعة فبقوا في نار الفرقة لا يحيون ولا يموتون وما انتفعوا بحياتهم فصاروا كالأموات وكما أن الصيحة من جبرائيل أهلكتهم فكذا النفخة من شعيب أحيت المؤمنين لأن أنفاس الأنبياء والأولياء كنفخ إسرافيل في الأحياء إذا كان المحل صالحاً لطرح الروح فيه كجسد الأكسير.
قال في المثنوى ::
سازد إسرافيل روزي ناله را
جان دهد وسيده صد ساله را
هين كه اسرافيل وقتند اوليا
مرده را زيشان حياتست ونما
جان هريك مرده ازكور تن