قال ابن الشيخ في حواشيه قوله تعالى : فمنهم شقى وسعيد ظاهره يدل على أن أهل الموقف لا يخرجون عن هذين القسمين اللذين.
أحدهما مخلد في النار أبداً إلا ما شاء ربك.
وثانيهما مخلد في الجنة أبداً إلا ما شاء ربك ؛ فيلزم أن يكون أطفال المشركين والمجانين الذين لم يعلموا صالحاً غير خارجين عنهما، فإن قلت : إنهم من أهل الجنة فبلا إيمان، وإن قلت إنهم من أهل النار فبلا ذنب، فاعلم أن أمرهم فيما يتعلق بالأمور الدنيوية تبع لأشرف الأبوين وفيما يتعلق بأمر الآخرة من الثواب والعقاب معلوم مما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه إنه قال سئل رسول الله عن أطفال المشركين أهم من أهل الجنة أم من أهل النار فقال عليه السلام : الله أعلم بما كانوا عاملين من الكفر والإيمان إن عاشوا وبلغوا وتحقيق هذا المقام ؛ أن الله تعالى يحشر يوم القيامة أصحاب الفترات والأطفال الصغار والمجانين في صعيد واحد لإقامة
١٨٧
العدل والمؤاخذة بالجريمة والثواب للعمل في أصحاب الجنة، فإذا حشروا في صعيد واحد بمعزل عن الناس بعث فيهم نبي من أفضلهم وتمثل لهم نار يأتي بها هذا النبي المبعوث في ذلك اليوم فيقول لهم أنا رسول الله إليكم فيقع عند بعضهم التصديق به ويقع التكذيب عند بعضهم ويقول لهم : اقتحموا هذه النار لأنفسكم، فمن أطاعني نجا ومن عصاني وخالف أمري هلك وكان من أهل النار فمن امتثل أمره منهم ورمى بنفسه فيها سعد ونال ثواب العمل ووجد تلك النار برداً وسلاماً، ومن عصاه استحق العقوبة ودخل النار ونزل فيها بعمله المخالف ليقوم العدل من الله تعالى في عباده هكذا ورد في صحيح الأخبار.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٨٦
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا﴾ أي سبقت لهم الشقاوة وقضي لهم بالنار ففي النار أي مستقرون في جهنم كأن سائلاً قال ما شأنهم فيها فقيل لهم فيها زفير وشهيق الزفير إخراج النفس بقوة وشدة والشهيق رده واستعمالهما في أول ما ينهق الحمار وآخر ما يفرغ من نهيقه، وفيه استعارة تصريحية فإن المراد تشبيه صراخهم بأصوات الحمير، فكما أن الحمير لها أصوات منكرة كذلك لهم أصوات منكرة في جهنم كما يشاهد ذلك في أهل الابتلاء في الدنيا لا سيما عند الصلب أو الخنق أو ضرب العنق أو قطع اليد أو نحوها، فإن لبعض المجرمين حينئذٍ خوارا كخوار البقر يتغير صوته كما يتغير لونه وحال الآخرة أشد من حال الدنيا ألف مرة.
خالدين فيها مقيمين دائمين فيها حال مقدرة من ضمير الاستقرار في الظرف وهو قوله في النار هذا إن أريد حدوث كونهم في النار.
وقال بعضهم : لا حاجة هنا إلى جعل الحال مقدرة كما في قوله تعالى : فادخلوها خالدين} (الزمر : ٧٣) لأن الخلود بعد الدخول وهي ههنا حال من استقر فيها فلا حاجة إلى التقدير [هود : ١٠٧-٣٠]﴿مَا دَامَتِ السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ﴾ ما مصدرية والمصدر المؤول قائم مقام الظرف.
والمعنى مدة دوامهما وهو عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع على عادة العرب وذلك أنهم إذا وصفوا شيئاً بالأبد والخلود قالوا ما دامت السموات والأرض، لأنهما باقيتان أبد الآباد على زعمهم فمثلوا ما قصد تأبيده بهما في عدم الزوال فورد القرآن على هذا المنهاج، وإن أريد تعليق قرارهم فيها بدوام السموات والأرض فالمراد سموات الآخرة وأرضها، وهي دائمة مخلدة ويدل عليه قوله : يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات}(إبراهيم : ٤٨) وقوله :﴿وَأَوْرَثَنَا الارْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ﴾ (الزمر : ٧٤) وإن أهل الآخرة لا بد لهم من مظل ومقل، إما اسماء يخلقها الله فتظلهم أو يظلهم العرش وكل ما علاك فأظلك فهو سماء وكل ما استقرت عليه قدمك فهو أرض ولا فساد في التشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ولا مانع، ونظيره تشبيه الشيء بالكيمياء أو بمدينة ارم وغير ذلك (حضرت شيخ قدس سره درفتوحات آورده كه دوام آسمان وزمين از حيثيت جوهر ايشان مرادست نه از حيثيت صورت ايشان) وقال أهل التأويل سموات الأرواح والقلوب وأرض النفوس والبشرية ﴿إِلا مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ استثناء من الخلود في النار لأن بعض أهل النار وهم فساق الموحدين يخرجون منها وذلك كاف في صحة الاستثناء لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض ويجوز اجتماع الشقاوة والسعادة في شخص واحد باعتبارين كما قال في التأويلات النجمية : إلا ما شاء ربك من الأشقياء وذلك لأن أهل الشقاوة على ضربين شقي وأشقى
١٨٨
فيكون من أهل التوحيد شقي بالمعاصي سعيد بالتوحيد فالمعاصي تدخله النار والتوحيد يخرجه منها ويكون من أهل الكفر والبدعة أشقى يصليه كفره وتكذيبه النار فيبقى خالداً مخلداً انتهى.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٨٨
وعن ابن مسعود رضي الله عنه ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد بعد ما يلبثون فيها أحقاباً.