وعن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص مثله ومعناه عند أهل السنة أن لا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان فتبقى طبقتهم خالية وأما مواضع الكفار فممتلئة أبداً.
قال الحافظ :
دلا طمع مبر از لطف بي عنايت دوست
كه ميرسد همه را لطف بي نهايت او
وفي هذا البيت إشارة إلى سر خفي لا يدركه إلا أهل الإلهام.
قال بعض الكبار : الترقي والتدلي إنما يجري في هذا العالم وأما في الآخرة فلا ترقي فيها.
فإن قلت فقد ترقى العاصي إلى مرتبة الجنة بعد الخروج من النار.
قلت : ذلك الترقي كان في الدنيا بسبب الإيمان غير أن ظهوره كان في الآخرة فعذب أوّلاً ثم دخل الجنة.
إن ربك فعال لما يريد من تخليد البعض كالكفار وإخراج البعض كالفساق من غير اعتراض عليه.
وإنما قيل فعال لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة.
وقال المولى أبو السعود : إلا ما شاء ربك استثناء من الخلود على طريقة قوله تعالى : لا يذقون فيها الموت إلا الموتة الأولى}(الدخان : ٥٦) وقوله :﴿مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ النِّسَآءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ (النساء : ٢٢) وقوله :﴿حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ (الأعراف : ٤٠) غير أن استحالة الأمور المذكورة معلومة بحكم العقل واستحالة تعلق المشيئة بعدم الخلود معلومة بحكم النقل، يعني أنهم مستقرون في النار في جميع الأزمنة إلا في زمان مشيئة الله تعالى لعدم قرارهم فيها وإذ لا إمكان لتلك المشيئة ولا لزمانها بحكم النصوص القاطعة الموجبة للخلود، فلا إمكان لانتهاء مدة قرارهم فيها ولدفع ما عسى يتوهم من كون استحالة تعلق المشيئة بطريق الوجوب على الله تعالى قال :﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ يعني أنه في تخليد الأشقياء في النار بحيث يستحيل وقوع خلافه فعال بموجب إرادته قاض بمقتضى مشيئته الجارية على سنن حكمته الداعية إلى ترتب الأجزئة على أفعال العباد، ولك أن تقول : إنهم ليسوا بمخلدين في العذاب الجسماني بل لهم من العقوبات والآلام الروحانية ما لا يعلمه إلا الله تعالى وهذه العقوبات، وإن كانت تعتريهم وهم في النار لكنهم ينسون بها عذاب النار ولا يحسون بها ألا ترى أن من دهمه الغم المفرط وأدهشه خطب جليل، فإنه لا يحس بقرص النملة والبرغوث ونحوهما وقس عليه الحال في جانب السرور كما سيأتي.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٨٨
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا﴾ من سعد بمعنى أسعد لغتان حكاهما الكسائي، أي قدر لهم السعادة وخلقوا لها، ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك.
قال قتادة : الله أعلم بثنياه.
وقال الضحاك إلا ما مكثوا في النار حتى ادخلوا الجنة فإن التأبيد من مبدأ معين كما ينقص باعتبار الانتهاء فكذلك باعتبار الابتداء.
وقال المولى أبو السعود في تفسيره : إن حمل على طريقة التعليق بالمحال فقوله : عطاء غير مجذوذ نصب على المصدرية من معنى الجملة لأن قوله : ففي الجنة خالدين فيها يقتضي إعطاء وإنعاماً فكأنه قيل يعطيهم إعطاء غير مقطوع، بل ممتداً لا إلى نهاية وهو إما اسم مصدر هو الإعطاء أو مصدر بحذف الزوائد كقوله تعالى : أنبتكم من الأرض نباتاً}(نوح : ١٧) وإن حمل على ما أعد الله لعباده الصالحين من النعيم الروحاني الذي عبر عنه "بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" فهو
١٨٩
نصب على الحالية من المفعول المقدر للمشيئة.
قال بعض الكبار : أهل الجنة يبقى في مرتبة الجنة وأهل الترقي يتجاوز ويترقى إلى ما فوقها.
وتحقيقه على ما في "التأويلات النجمية" أن أهل السعادة على ضربين سعيد وأسعد فالسعيد من يبقى في الجنة ودرجاتها وغرفاتها إلى العليين بحسب العبادة والعبودية، والأسعد من يدخل الجنة ويعبر عن درجاتها وغرفاتها إلى مقامات القربة بحسب المعرفة والتقوى والمحبة كقوله تعالى :﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ وَنَهَرٍ * فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر﴾ (القمر : ٥٤ ـ ـ ٥٥) وقال صلى الله عليه وسلّم "إن أهل الجنة ليرون أهل العليين، كما يرى أحدكم الكوكب الدري في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم في أنعم مكان" فمن كان من أهل الجنة وأهل العليين فلهم خلود في الجنة ومن كان في مقام مقعد الصدق فهو في أنعم مقام من الجنة فلهم الخروج من الجنة من جذبات العناية إلى عالم الوحدة والسر في هذا أن السالك يسلك بقدم المعاملات إلى أعلى مقام الروحانية من حضيض البشرية وهو بعد في مقام الأثنينية وهو سدرة المنتهى عندها جنة المأوى فلا عبور عن هذا المقام للملك المقرب ولا للنبي المرسل إلا برفرف جذبة العناية فإنها توازي عمل الثقلين وبها يصل العبد إلى عالم الوحدة فافهم جداً.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٨٩
فما بقي هناك الدخول والخروج والاستثناء بقوله :﴿إِلا مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ راجع إلى هذا المقام ولهذا قال : عطاء غير مجذوذ لأنه لا انقطاع له ولا تغيير فيه انتهى.