واعلم أن الكلمة الإلهية الأزلية سبقت بسعادة أهل الإيمان وشقاوة أهل الكفر فهم في قبضتي الكفر والقهر وإمهالهم وتأخيرهم إنما هو لاستكمال السعادة والشقاوة لنفوسهم ولغيرهم، فكتاب الله تعالى هو محك النفوس فمن آمن به وعمل بأحكامه فقد كملت سعادته ومن كفر به وترك العمل بأحكامه فقد كملت شقاوته، وكل واحد من الفريق الأول أهل يقين ونجاة وكل واحد من الفريق الثاني أهل شك وهلاك، وعادة الله تعالى جارية على تسليط أهل الإنكار على أهل الإقرار لاستخراج ما في معادن نفوسهم من جواهر أوصافه الشريفة كالصبر على الأذى والتحمل على البلاء والحلم على السفهاء والعفو عن الجهلاء والصفح عمن ليس له حياء لكي يتخلقوا بأخلاق الله تعالى ويظهر بها صدق عبوديتهم وتفاوت درجاتهم فإن المراتب ليست بالدعاوى والأماني بل بالحقائق والمعانى.
قال المولى الجامي :
بى رنج كسى ون نبردره بسر كنج
آن به كه بكوشم بتمنا ننشينم
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام قدس سره مباني طريق الصوفية على أربعة أشياء وهي اجتهاد وسلوك وسير وطير، فالاجتهاد التحقق بحقائق الإيمان والسير التحقق بحقائق الإحسان والطير الجذبة بطريق الجود والإحسان إلى معرفة الملك المنان، فمنزلة الاجتهاد من السلوك منزلة الاستنجاء من الوضوء فمن لا استنجاء له لا وضوء له فكذا من لا اجتهاد له لا سلوك له ومنزلة السلوك من السير منزلة الوضوء من الصلاة فمن لا وضوء له لا صلاة له، فكذا من لا سلوك له لا سير له، وبعده الطير وهو الوصول وأدنى الانتساب في هذا الباب محبة أهل الاجتهاد وتصديق الواصلين إلى سر المبدأ والمعاد، ورعاية جانب المتحققين بحقائق القرآن دون العداوة والبغض والشنآن، وفي الحديث القدسي : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب أي : أعلمته أني محارب له حيث كان محارباً لي بمعاداة أوليائي، فإذا كان معادي الوليّ ورافض علومه محارباًتعالى فما ظنك بمعادي النبي وتارك كتابه؟ ولا يفلح أحد ممن حارب الله تعالى ورسوله ووارث رسوله، فإن الله تعالى ذو البطش الشديد، فإذا أخذه لم يفلته نسأل الله العافية والوفاء والصفاء ونعوذ به
١٩٣
من الخذلان وأهل الجفاء.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٩٢
﴿فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ﴾ يقول الفقير : أي إذا تبين عندك يا محمد أحوال القرون الأولى وأن إخوانك الأنبياء ومؤمنيهم تحملوا من قومهم الأذى وصبروا واستقاموا على طريقتهم المثلى إلى أن يأتي أمر الله تعالى، فدم أنت أيضاً على الاستقامة على التوحيد والدعوة إليه كما أمرك الله تعالى.
ومن تاب معك معطوف على المستكن في فاستقم من غير تأكيد بالمنفصل لوجود الفاصل القائم مقامه، أي ومن تاب من الشرك والكفر وشاركك في الإيمان هو المعنى بالمعية، وإلا فليس لهم مصاحبة له في التوبة عما ذكر إذ الأنبياء معصومون عن الكفر وكذا عن تعمد الكبائر قبل الوحي وبعده بالإجماع، لكن الظاهر أن الاشتراك في نفس التوبة يكفي في الاصطحاب ولا يلزم الاشتراك في المتوب عنه وقد كان عليه السلام يستغفر الله كل يوم أكثر من سبعين مرة على ما ورد في الحديث كذا في حواشي سعدى المفتي.
يقول الفقير : لعل التوبة في مثل هذا المقام هي الرجوع عن الحالة الأولى ومفارقتها سواء صدر فيها الكفر كسجود الصنم وغيره وهو حال أكثر المؤمنين، أو لم يصدر وهو حال الأقلين ومنهم رسول الله وقد صح أنه عليه السلام شهد بأن علياً رضي الله عنه لم يكفر بالله قط طرفة عين مع قوله له في دعوة الإسلام : وأدعوك إلى الكفر باللات والعزى فإن هذا القول لا يقتضي كفره رضي الله عنه ؛ إذ قد يدعى الرجل إلى كفر ما لم يتصف به إذا كان من شأنه الكفر به والإنكار عليه ولا تطغوا أي ولا تنحرفوا عما حد لكم بإفراط وتفريط فإن كلا طرفي قصد الأمور ذميم، وإنما سمى ذلك طغياناً وهو تجاوز الحد تغليظاً أو تغليباً لحال سائر المؤمنين على حاله.
وفي سورة شورى واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم} (الشورى : ١٥) والنهيان متقاربان إذ المراد عدم الاتباع لإهواء أهل الكفر ؛ لأن في الاتباع الطغيان وفي عدمه الاستقامة المحضة ﴿أَنَّهُ﴾ أي : الله تعالى.
بما تعملون بصير عالم لا يخفى عليه شيء فيجازيكم على ذلك فاتقوه في المحافظة على حدوده وهو في معنى التعليل للأمر والنهي.


الصفحة التالية
Icon