[العنكبوت : ٤٥-١٣٠]﴿وَأَقِمِ الصَّلَواةَ﴾ في الأمر بأفعال الخير جاء موحداً موجهاً إلى رسول الله في الظاهر وإن كان المأمور به من حيث المعنى عاماً، وفي النهي عن المحظورات موجهاً إلى غير الرسول مخاطبا به أمته، فهذا من جليل البلاغة القرآنية والمراد بإقامة الصلاة أداؤها وإنما عبر عنه بها إشارة إلى أن الصلاة عماد الدين طرفي النهار أي : غدوة وعشية، وانتصابه على الظرفية لكونه مضافاً إلى الوقت فيعطى حكم المضاف إليه وزلفا من الليل منصوب على الظرفية لعطفه على طرفي النهار أي ساعات من الليل وهي الساعات القريبة من النهار فإنه من أزلفه إذا قربه جمع زلفة كغرف جمع غرفة، ولمراد بصلاة الغدوة صلاة الفجر.
وبصلاة العشية الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشى، وبصلاة الزلف المغرب والعشاء وفيه دلالة بينة على إطلاق لفظ الجمع وهو الزلف على الاثنين فالآية مشتملة على الصلوات الخمس ونظيرها قوله تعالى في سورة ق وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس}(طه : ١٣٠) أي : بصلاة الصبح [ق : ٣٩-٧٩]﴿وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾ أي : بصلاة العصر والظهر فالعصر أصل في ذلك الوقت والظهر تبع لها كما في تفسير المناسبات ومن الليل في بعض أوقاته فسبحه بصلاتي المغرب والعشاء وفسر بعضهم طرفي النهار بالصبح والمغرب وزلف الليل بالعشاء والتهجد فإنه كان واجباً عليه فيوافق قوله : ومن الليل فتهجد به}(الإسراء : ٧٩)أو الوتر على ما ذهب إليه أبو حنيفة أو مجموع العشاء والوتر والتهجد على ما يقتضيه ظاهر صيغة الجمع في زلفاً.
[هود : ١١٤-٤٥]﴿إِنَّ الْحَسَنَـاتِ﴾ على الإطلاق لا سيما الصلوات الخمس.
يذهبن السيئات أي : يكفرن الصغائر، يعني لا أنها تذهب السيئات نفسها إذ هي قد وجدت بل ما كان يترتب عليها، وفي الحديث : الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر ويمنعن من اقترافها كقوله تعالى : إن الصلوة تنهى عن الفحشاء والمنكر}(العنكبوت : ٤٥) ـ ـ روى ـ ـ في سبب النزول أن أبا اليسر الأنصاري كان يبيع التمر فأتته امرأة، فأعجبته، فقال لها : إن في البيت أجود من هذا التمر فذهب بها إلى نحو بيته فضمها إلى نفسه وقبلها وفعل بها كل شيء إلا الجماع، فقالت له : اتقِ الله فتركها وندم، فأتى أبا بكر رضي الله عنه فأخبره فقال : استر على نفسك وتب إلى الله تعالى،
١٩٧
فلم يصبر فأتى عمر رضي الله عنه فقال له مثل ذلك فلم يصبر، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبره بما فعل فقال :"انتظر أمر ربي فاستر على نفسك" فلما صلى صلاة العصر نزلت هذه الآية فقال عليه السلام :"صليت العصر معنا" قال نعم فقال :"اذهب فإنها كفارة لما فعلت" فقال الحاضرون من الصحابة "هذا له خاصة أم للناس عامة" قال :"بل للناس كافة" وفي الحديث :"أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء" قالوا : لا قال :"فذلك مثل صلاة الخمس يمحو الله بها الخطايا".
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٩٧
واعلم : أن الذنوب كلها نجاسات والطاعات مطهرات وبماء أعضاء الوضوء تتساقط الأوزار ولذا كانت الغسالة في حكم النجاسة، ومن هنا أخذ بعض الفقهاء كراهة الصلاة بالخرقة التي يتمسح بها أعضاء الوضوء، وقال الله تعالى لموسى عليه السلام "يا موسى يتوضأ أحمد وأمته كما أمرتهم وأعطيهم بكل قطرة تقطر من الماء جنة عرضها كعرض السماء" فانظر إلى ما سلبه الوضوء وجلبه.
قال الحافظ :
خوشا نماز ونياز كسى كه ازسردرد
بآب ديده وخون جكر طهارت كرد
وأحسن الحسنات وأفضل الطاعات العلم بالله، وطريقه التوحيد، وخلاف هوى النفس، فبذكر الله يتخلص العبد من الذنوب، وبه يحصل تزكية النفوس وتصفية القلوب، وبه يتقوى العبد على طاعة الرحمن ويتخلص من كيد الشيطان، قالوا : يا رسول الله، لا إله إلا الله من الحسنات قال :"هي أحسن الحسنات" وفي الآية إشارة إلى إدامة الذكر والطاعة والعبادة في الليل والنهار إلا أن يكون له ضرورة من الحاجات الإنسانية فيصرف بعض الأوقات إليها كطلب المعاش في النهار والاستراحة في الليل، فإنه يحصل للقوى البشرية والحواس كلال، فيلزم دفعه بالمنام ليقوم في أثناء الليل نشيطاً للذكر والطاعة ﴿إِنَّ الْحَسَنَـاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّـاَاتِ﴾ أي أن أنوار الحسنات وهي الأعمال الصالحة والذكر والمراقبة طرفي النهار وزلفا من الليل يذهبن ظلمات سيئات الأوقات التي تصرف في قضاء الحوائج النفسانية الإنسانية وما يتولد من الاشتغال بها.
واعلم أن تعلق الروح النوراني العلوي بالجسد الظلماني السفلي موجب لخسران الروح إلا أن تتداركه أنوار الأعمال الصالحة الشرعية فتربى الروح وترقيه من حضيض البشرية إلى ذروة الروحانية بل إلى الوحدانية الربانية وتدفع عنه ظلمة الجسد السفلي كما أن إلقاء الحبة في الأرض موجب لخسران الحبة إلا أن يتداركها الماء فيربيها إلى أن تصير الحبة الواحدة إلى سبعمائة حبة والله يضاعف لمن يشاء.