ثم اعلم أن الرؤيا عبارة عن ارتسام صورة المرئي وانتقاشها في مرآة القلب في النوم دون اليقظة، فالرؤيا من باب العلم، ولكل علم معلوم، ولكل معلوم حقيقة، وتلك الحقيقة صورته، والعلم عبارة عن وصول تلك الصورة إلى القلب وانطباعها فيه، سواء كان في النوم أو في اليقظة فلا محل له غير القلب، ولما كان عالم الأرواح متقدماً بالوجود والمرتبة على عالم الأجسام وكان الأمداد الرباني الواصل إلى الأجسام موقوفاً على توسط الأرواح بينها وبين الحق وتدبير الأجسام مفوض إلى الأرواح، وتعذر الارتباط بين الأرواح والأجسام للمباينة الذاتية الثابتة بين المركب والبسيط، فإن الأجسام كلها مركبة، والأرواح بسيطة فلا مناسبة بينهما فلا ارتباط، وما لم يكن ارتباط لا يحصل تأثير ولا تأثر ولا امداد ولا استمداد، فلذلك خلق الله عالم المثال برزخا جامعاً بين عالم الأرواح وعالم الأجسام ليصح ارتباط أحد العالمين بالآخر فيتأتى حصول التأثر والتأثير ووصول الامداد والتدبير، وهكذا شأن روح الإنسان مع جسمه الطبيعي العنصري الذي يدبره ويشتمل عليه علماً وعملا فإنه لما كانت المباينة ثابتة بين روحه وبدنه وتعذر الارتباط الذي يتوقف عليه التدبير ووصول المدد إليه خلق الله نفسه الحيوانية برزخا بين البدن والروح المفارق، فنفسه الحيوانية من حيث إنها قوة معقولة هي بسيطة تناسب الروح المفارق، ومن حيث إنها مشتملة بالذات على قوى مختلفة متكثرة منبثة في أقطار البدن متصرفة بتصرفات مختلفة ومحمولة أيضاً في البخار الضبابي الذي
٢١٣
في التجويف الأيسر من القلب الصنوبري تناسب المزاج المركب من العناصر فحصل الارتباط والتأثر والتأثير وتأتى وصول المدد.
وإذا وضح هذا فاعلم أن القوة الخالية التي في نشأة الإنسان من كونه نسخة من العالم بالنسبة إلى العالم المثالي المطلق، كالجزء بالنسبة إلى الكل، وكالجدول بالنسبة إلى النهر الذي هو مشرعه، وكما أن طرف الجدول الذي يلي النهر متصل به كذلك عالم الخيال الإنساني من حيث طرفه الأعلى متصل بعالم المثال.
والمثال نوعان : مطلق ومقيد، فالمطلق : ما حواه العرش المحيط من جميع الآثار الدنيوية والأخروية، والمقيد نوعان نوع هو مقيد بالنوم ونوع غير مقيد بالنوم مشروط بحصول غيبة وفتور ما في الحس كما في الواقعات المشهورة للصوفية وأول ما يراه الأنبياء عليهم السلام إنما هو الصور المثالية المرئية في النوم والخيال، ثم يترقون إلى أن يروا الملك في المثال المطلق أو المقيد في غير حال النوم لكن مع نوع فتور في الحس، وكونهم مأخوذين عن الدنيا عند نزول الوحي إنما هو مع بقاء العقل والتمييز ولذا لا ينتقض حينئذٍ وضوؤهم ولأنهم تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم لكون بواطنهم محلاة بصفات الله متخلقة بأخلاقه مطهرة عن أوصاف البشرية من الحرص والعجز والأمل والضعف وغير ذلك مما فيه نقص ظاهر بالإضافة إلى ذروة الكمال فضلاً عن النوم لأن النوم عجز وضعف وآفة، ولو حلت الآفة قلب النبي لجاز أن يحله سائر الآفات من توهم في الوحي وغفلة عنه وسآمة منه وفزع يمنعه عن واجب عليه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢١١
قال بعضهم : إن الله قد وكل بالرؤيا ملكاً يضرب من الحكمة الأمثال، وقد اطلعه الله سبحانه على قصص ولد آدم من اللوح المحفوظ فهو ينسخ منها ويضرب لكل قصة مثلاً، فإذا نام يمثل له تلك الأشياء على طريق الحكمة لتكون بشارة له أو نذارة أو معاتبة ليكونوا على بصيرة من أمرهم.
وفي شرح الشرعة أن اللوح المحفوظ في المثال كمرآة ظهر فيها الصور، ولو وضع مرآة في مقابلة أخرى ورفع الحجاب بينهما كانت صورة تلك المرآة تتراىء في تلك والقلب مرآة تقبل رسوم العلوم واشتغاله بشهواته ومقتضى حواسه، كأنه حجاب مرسل بينه وبين مطالعة اللوح الذي هو من عالم الملكوت، فإن هبت ريح الرحمة حرك هذا الحجاب ورفع فيتلألأ في مرآة القلب شيء من عالم الملكوت كالبرق الخاطف، وقد يثبت ويدوم، وما دام متيقظاً فهو مشغول بما يورده الحس عليه من عالم الشهادة إلا من شاء الله تعالى من المؤيدين من عند الله تعالى فإذا ركدت الحواس عند النوم وتخلص القلب من شغلها ومن الخيال، وكان صافياً في جوهره، وارتفع الحجاب وقع في القلب شيء مما في اللوح بحسب صفاته إلا أن النوم لا يمنع الخيال عن عمله وحركته، فما وقع في القلب من اللوح يبتدره الخيال فيحاكيه بمثال يقاربه وتكون التخيلات أثبت في الحفظ من غيرها فإذا انتبه من النوم لا يتذكر إلا الخيال فيحتاج الرائي إلى معبر لينظر بفراسته أن هذا الخيال حكاية، أي معنى من المعاني، ولهذا السرّ كان من السنة لمن يرى في منامه شيئاً أن يقصه على عالم ناصح.