والرؤيا ثلاثة، أحدها : حديث النفس كمن يكون في أمر أو حرفة يرى نفسه في ذلك الأمر وكالعاشق يرى معشوقه ونحو ذلك، وثانيها : تخويف الشيطان بأن يلعب بالإنسان فيريه ما يحزنه ومن لعبه به الاحتلام الموجب للغسل، وهذان لا تأويل لهما، وثالثها : بشرى من الله تعالى بأن يأتيك ملك الرؤيا من نسخة أم الكتاب
٢١٤
يعني من اللوح المحفوظ وهو الصحيح وما سوى ذلك أضغاث أحلام.
قال استئناف مبني على سؤال من قال فماذا قال يعقوب بعد سماع هذه الرؤيا العجيبة؟ فقيل قل يا بني تصغير ابن صغره للشفقة والمحبة وصغر السن، فإنه كان ابن ثنتي عشرة سنة كما مر، وأصله يا بنيا الذي أصله يا بني فأبدلت ياء الإضافة الفا كما قيل في يا غلامي يا غلاماً بناء على أن الألف والفتحة أخف من الياء والكسرة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢١١
قال في الإرشاد : ولما عرف يعقوب من هذه الرؤيا أن يوسف يبلغه تعالى مبلغاً جليلاً من الحكمة ويصطفيه للنبوة وينعم عليه بشرف الدارين كما فعل بآبائه الكرام خاف عليه حسد الأخوة وبغيهم فقال صيانة لهم من ذلك، وله من معاناة المشاق ومقاساة الأحزان، وإن كان واثقاً من الله تعالى بأن سيتحقق ذلك لا محالة وطمعاً في حصوله بلا مشقة.
لا تقصص (مخوان ويدامكن) رؤيك كلا أو بعضاً على إخوتك وهم بنوا علاته العشرة كما هو المشهور إذ عدّ دنية من الرجال سهو فإن الأصح إنها بنت ليا، كما سبق، فقوله في تفسير الإرشاد المراد بإخوته ههنا الذين يخشى غوائلهم ومكايدهم من بني علاته الأحد عشر.
وأما بنيامين الذي هو شقيق يوسف وأمهما راحيل فليس بداخل تحت هذا النهي ؛ لأنه لا يتوهم مضرته ولا يخشى معرته ولا يكن معهم معدوداً في الرؤيا إذ لم يكن معهم في السجود ليوسف انتهى ليس بوجيه، بل ليس بسديد، إذ ليس في الأخوة من يسمى دنية كما في حواشي سعدي المفتي، ولا يلزم من عدم كون بنيامين داخلاً معهم في الرؤيا أن لا يكون منهم باعتبار التغليب فهو حادي الأحد عشر.
فيكيدوا نصب بإضمار أن أي : فيفعلوا لك أي : لأجلك ولإهلاكك كيدا خفياً عن فهمك لا تقدر على مدافعته وهذا أوفق بمقام التحذير، وإن كان يعقوب يعلم أنهم ليسوا بقادرين على تحويل ما دلت الرؤيا على وقوعه والكيد الاحتيال للاغتيال، أو طلب إيصال الشر بالغير وهو غير عالم به.
إن الشيطان للإنسان عدو مبين استئناف كأن يوسف قال كيف يصدر ذلك عن إخوتي الناشئين في بيت النبوة؟ فقيل : إن الشيطان ظاهر العداوة للإنسان أو مظهرها قد بانت عداوته لك ولأبناء جنسك إذ اخرج أبويكم آدم وحواء من الجنة، ونزع عنهما لباس النور، وحلف إنه ليعلمن في نوع الإنسان كل حيلة وليأتينهم من كل جهة وجانب، فلا يزال مجتهداً في إغواء إخوتك وإضلالهم وحملهم على الأضرّ : فبه علم أنهم يعلمون تأويلها فقال ما قال.
قال بعض العارفين : برأ أبناءه من ذلك الكيد فالحقه بالشيطان لعلمه أن الأفعال كلها من الله تعالى، ولما كان الشيطان مظهراً لاسم المضل أضاف الفعل السببي إليه وهذه الإضافة أيضاً كيد ومكر، فإن الله تعالى هو الفاعل في الحقيقة لا المظهر الشيطاني :
حق فاعل وهره جز حق آلات بود
تأثير زآلت از محالات بود
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢١١
﴿وَكَذَالِكَ﴾ أي مثل اجتبائك واختيارك من بين أخوتك لمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكبرياء شأنك فالكاف في محل النصب على أنه صفة مصدر محذوف يجتبيك ربك يختارك ويصطفيك لما هو أعظم منها كالنبوة ويبرز مصداق تلك الرؤيا في عالم الشهادة إذ لا بد لكل صورة مرئية في عالم المثال حقيقة واقعة في عالم الشهادة وإن كانت الدنيا كلها خيالاً كما سيأتي تحقيقه.
٢١٥
خيال جمله جهانرا بنور شم يقين
بجنب بحر حقيقت سراب مى بينم
ويعلمك كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه كأنه قيل وهو يعلمك ؛ لأن الظاهر أن يشبه الاجتباء بالاجتباء والتعليم غير الاجتباء فلو كان داخلاً في حكم التشبيه كان المعنى ويعلمك تعليماً مثل الاجتباء بمثل هذا الرؤيا وظاهر سماجته ؛ فإن الاجتباء وجه الشبه بين المشبه والمشبه به ولم يلاحظ في التعليم ذلك كذا قالوا.
يقول الفقير : هذا هو منهما نعمة جسيمة من الله تعالى كما يدل عليه مقام الامتنان فلا سماجة من تأويل الأحاديث أي : ذلك الجنس من العلوم فتطلع على حقيقة ما أقول فإن من وفقه الله تعالى لمثل هذه الرؤيا لا بد من توفيقه لتعبيرها فإن علم التعبير من لوازم الاجتباء غالباً.


الصفحة التالية
Icon