قال البيضاوي هذه الجريمة كانت قبل استنبائهم إن صح انتهى، وذلك لأنهم قالوا لا دليل على امتناع صدور الكبيرة من الأنبياء قبل الوحي، وقوله : إن صح يدل على الشك في صحة استنبائهم، وأصاب في ذلك لأن الأنبياء محفوظون قبل نبوتهم كما أنهم معصومون بعدها من الأمور الموجبة للنفرة الغير اللائقة بشأنهم وليس همّ يوسف كما سيأتي من قبيل ما صدر من إخوته من الحسد وضربه والقائه في الجب بالفعل والكذب عمداً من غير تأويل.
وأما قوله تعالى :﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَه عَلَيْكَ وَعَلَى ءَالِ يَعْقُوبَ﴾ (يوسف : ٦)
٢٢٧
فلا يدل على نبوة غيره من الإخوان الموجودين إذ يكفي في إتمام النعمة على آل يعقوب إن لا تنقطع سلسلة النبوة من أعقابهم كما قال تعالى في كلمة التوحيد كلمة باقية في عقبه، فإنه لا ينافي وجود الشرك من بعض الأحفاد كما لا يخفى.
وكذا تمثلهم في صورة الكواكب لا يدل على نبوتهم، لأنه إذا كان يعقوب بمنزلة الشمس التي تعينه بالنبوة ودعوة الخلق وهدايتهم إلى الله تعالى كان أولاده بمنزلة الكواكب التي تتبع الشمس والقمر ولوكان كلهم أنبياء لاستدعى أن يكون محبة يعقوب لهم على السوية أي من أول الأمر بناء على وراثة كلهم لنبوته، ولما ظهر ما ظهر من تفضيل يوسف عليهم فيوسف من بينهم كشيث من بين بني آدم عليه السلام، هكذا لاح ببال الفقير أيده الله القدير.
وفي الآيات إشارات إلى تزوير الحواس والقوى وتلبسها وتمويهاتها وتخيلاتها الفلسفية وكذباتها وحيلها ومكرها وكيدها وتوهماتها وتسويلاتها المجبولة عليها، وإن كانت للأنبياء وأن الروح المؤيد بنور الإيمان يقف على النفس وصفاتها وما جبلت الحواس والقوى عليه، ولا يقبل منها تمويهاتها وتسويلاتها ويرى الأمور كلها من عند الله وأحكامه الأزلية، فيصبر عليها صبراً جميلاً وهو الصبر على ظهور ما أراد الله فيها بالإرادة القديمة، والتسليم لها والرضى بها وبقوله :﴿وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ يشير إلى الاستعانة بالله على الصبر الجميل فيما يجري من قضائه وقدره كذا في التأويلات النجمية نفعنا الله تعالى بها.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٢٦
﴿وَجَآءَتْ سَيَّارَةٌ﴾ جماعة يسيرون من جهة مدين إلى مصر فنزلوا قريباً من جب يوسف، وكان ذلك بعد ثلاثة أيام من إلقائه فيه.
قال الكاشفي :(روزهارم مده نجات بوى رسيد).
قال السمرقندي في بحر العلوم : كان الجب في قفرة بعيدة من العمران لم يكن إلا للرعاة فأخطأوا الطريق فنزلوا قريباً منه انتهى.
فهذا يخالف قوله تعالى : يلتقطه بعض السيارة فإنه يقتضي كون الجب في الأمن والجادة والسير هو السير المعتاد.
فارسلوا أي : إلى الجب واردهم أي : الذي يرد الماء، أي : يحضره ليستقي لهم وكان ذلك مالك بن دعر الخزاعي.
قال في القاموس مالك بن دعر : بالدال المهملة فأدلى دلوه ادلاء بالفارسية (فرهشتن دلو) أي : أرسلها إلى الجب ليملأها فأوحى إلى يوسف بالتعلق بالحبل.
اي يوسف آخر بهرتست اين دلو در اه آمده
(در معالم آورده كه ديوارهاى اه برفراق يوسف بكريستند)، وذلك لأن للجمادات حياة حقانية لا يعرفها إلا العلماء بالله، فلها أنس الذكر والتوحيد والتسبيح ومجاورة أهل الحق وقد صح أن الجزع الذي كان يعتمد عليه رسول الله حين الموعظة للناس أنّ أنين بني آدم لما فارقه رسول الله وذلك بعد أن عمل له المنبر.
قال في المثنوى :
استن حنانه از هجر رسول
ناله مى زد همو أرباب عقول
كفت يغمبر ه خواهى اي ستون
كفت جانم ازفراقت كشت خون
فلما خرج يوسف إذا هو بغلام أحسن ما يكون وقد كان أعطى شطر الحسن فلما رآه مالك قال مبشراً نفسه وأصحابه يا بشرى هذا غلام (اي مده وشادمانى) كأنه نادى البشرى وقال : تعالي وهذا أوانك حيث فاز بنعمة نادرة، وأي نعمة مكان ما يوجد مباحاً من الماء،
٢٢٨
وقيل : هو اسم صاحب له ناداه ليعينه على إخراجه، كما قال الكاشفي :(اورا آوزداد وكفت اين سريست كه دلورا كران ساخته س بمدد كارىء أو يوسف را از اه آورده)
ون آن ماه جهان آرا بر آمد
ز جانش بانك يا بشرى بر آمد
بشارت كز نين تاريك جاهى
بر آمد س جهان افروز ماهى
وذلك لأن ماء الحياة لا يوجد إلا في الظلمات كما أن العلم الإلهي إنما يوجد في ظلمات هذا القلب والقالب.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٢٨
وفي التأويلات النجمية : يشير إلى أن القلب كما له بشارة من تعلق الجذبة وخلاصه من الجب، فكذلك للجذبة بشارة في تعلقها بالقلب وخلاصه من الجب وهي من أسرار.
يحبهم ويحبونه وأسروه}(المائدة : ٥٤) أي : أخفاه الوارد وأصحابه عن بقية الرفقة لئلا يطالبوا بالشركة فيه ﴿بِضَـاعَةً﴾ حال كونه بضاعة أي متاعاً للتجارة فإنها قطعة من المال بضعت منه، أي قطعت للتجارة والله عليم بما يعملون لم يخف عليه إسرارهم.
وشروه أي : باعوه وهو من الأضداد والضمير للوارد وأصحابه.


الصفحة التالية
Icon