وفي التأويلات النجمية لما أخرجوه من جب الطبيعة ذهبوا به إلى مصر الشريعة وقال الذي اشتريه من مصر وهو عزيز مصر الشريعة أي الدليل والمربي على جادة الطريقة ليوصله إلى عالم الحقيقة لامرأته وهي الدنيا اكرمي مثواه أخدمي له في منزل الجسد بقدر حاجته الماسة عسى أن ينفعنا حين يكون صاحب الشريعة وملكاً من ملوك الدنيا يتصرف فينا باكسير النبوة فتصير الشريعة حقيقة والدنيا آخرة أو نتخذه ولداً نربيه بلبان ثديي الشريعة والطريقة والفطام عن الدنيا الدنية وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يشير إلى أن تمكين يوسف القلب في أرض البشرية إنما هو ليعلم علم تأويل الرؤيا وهو علم النبوة، كما قال : ولنعلمه من تأويل الأحاديث فكما أن الثمرة على الشجرة إنما تظهر إذا كان أصل الشجرة راسخاً في الأرض فكذلك على شجرة القلب إنما تظهر ثمرات العلوم الدينية والمشاهدة الربانية إذا كان قدم القلب ثابتاً في طينة الإنسانية والله غالب على أمره بمعنيين أحدهما.
أن يكون الله غالباً على أمر القلب أي يكون الغالب على أمره ومحبة الله وطلبه والثاني أن يكون الغالب على أمر القلب جذبات العناية لتقيمه على صراط مستقيم الفناء منه والبقاء بالله فيكون تصرفاته بالله ولله وفي الله لأنه باق بهويته فأني عن أنانية نفسه ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنهم خلقوا مستعدين لقبول هذه الكمالية يصرفون استعدادهم فيما يورثهم النقصان والخسران انتهى ما في التأويلات.
ثم إن الله تعالى مدح العلم في هذه الآية وذم الجهل.
أما الأول فلأن الله تعالى ذكر العلم في مقام الامتنان حيث قال : ولنعلمه.
وأما الثاني فلأنه قال : ولكن أكثر الناس لا يعلمون وعلم منه أن أقلهم يعلمون.
والعلم علمان علم الشريعة وعلم الحقيقة ولكل منهما فضل في مقامه وفي الخبر قيل يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ فقال : العلم بالله قيل أي الأعمال يزيد مرتبة؟ قال : العلم بالله، فقيل نسأل عن العمل تجيب عن العلم فقال : إن قليل العمل ينفع مع العلم وإن كثير العمل لا ينفع مع الجهل والعلم بالله لا يتيسر إلا بتصفية الباطن وتجلية مرآة القلب وكان مطمح نظر الأكابر في إصلاح القلوب والسرائر دون القوالب والظواهر، لأن الظواهر مظهر نظر الخلق والبواطن مظهر نظر الحق وإصلاح ما يتعلق بالحق أولى من إصلاح ما يتعلق بالخلق :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٣٠
كعبه بنياد خليل آز رست
دل نظركاه جليل اكبرست
نسأل الله التوفيق.
ولما بلغ يوسف أشده قال في القاموس أي قوته وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين.
واحد جاء على بناء الجمع كأنك ولا نظير لهما أو جمع لا واحد له من لفظه.
وقال أهل التفسير : أي منتهى اشتداد جسمه وقوته واستحكام عقله وتمييزه وهو سن الوقوف ما بين الثلاثين إلى الأربعين.
والعقلاء ضبطوا مراتب أعمار الناس في أربع، الأولى سن النشو والنماء ونهايته إلى ثلاثين سنة، والثانية سن الوقوف وهو سن الشباب ونهايته إلى أن
٢٣٢
تتم أربعون سنة من عمره، والثالثة سن الكهولة وهو سن الانحطاط اليسير الخفي وتمامه إلى ستين سنة، والرابعة سن الشيخوخة وهو سن الانحطاط العظيم الظاهر وتمامه عند الأطباء إلى مائة وعشرين سنة، والأشد غاية الوصول إلى الفطرة الأولى بالتجرد عن غواشي الخلقة التي يسميها الصوفية بمقام الفتوة.
قال في التعريفات الفتوة في اللغة السخاء والكرم وفي اصطلاح أهل الحقيقة هي أن تؤثر الخلق على نفسك بالدنيا والآخرة آتيناه حكماً كمالا في العلم والعمل، استعد به الحكم بين الناس بالحق ورياستهم.
قال القشيري من جملة الحكم الذي آتاه الله نفوذ حكمه على نفسه حتى غلب شهوته فامتنع عما راودته زليخا عن نفسه، ومن لا حكم له على نفسه لم ينفذ حكمه على غيره.
قال الإمام نقلاً عن الحسن : كان نبياً من الوقت الذي ألقي فيه في غيابة الجب لقوله تعالى : ولما بلغ أشده آتيناه ولذا لم يقل ههنا ولما بلغ أشده واستوى كما قال في قصة موسى لأن موسى أوحي إليه عند منتهى الأشد والاستواء وهو أربعون سنة وأوحي إلى يوسف عند أوله وهو ثمان عشرة سنة.
وعلما قالوا المراد من الحكم الحكمة العملية ومن العلم الحكمة النظرية وذلك لأن أصحاب الرياضات والمجاهدات يصلون أولاً إلى الحكمة العملية ثم يترقون منها إلى الحكمة النظرية، وأما أصحاب الأفكار والأنظار العقلية فإنهم يصلون أولاً إلى الحكمة النظرية ثم ينزلون منها إلى الحكمة العملية، وطريقة يوسف عليه السلام هي الأول لأنه صبر على المكاره والبلاء والمحن ففتح الله له أبواب المكاشفات، قال الحافظ :
مكن زغصه شكايت كه در طريق طلب
برحتى نرسيد آنكه زحمتى نكشيد
وقال :
ه جورها كه كشيدند بلبلان ازدى
ببوى آنكه دكرنو بهار بازآمد
والحاصل : أن طريقة يوسف طريقة السالك المجذوب لا طريقة المجذوب السالك والأولى هي سنة الله الغالبة في أنبيائه وأوليائه، ففي قوله : حكماً وعلماً إشارة إلى استكمال النفس في قوتها العملية والنظرية.


الصفحة التالية
Icon