واعلم : أن الرؤيا تطلب التعبير، لأن المعاني تظهر في الصور الحسية منزلة على المرتبة الخيالية، وأما إبراهيم عليه السلام فقد جرى على ظاهر ما أري في ذبح ابنه لأن شأن مثله أن يعمل بالعزيمة دون الرخصة ولو لم يفعل ذلك لما ظهر للناس تسليمه وتسليم ابنه لأمر الحق تعالى وحكى أن الإمام تقي بن مخلد صاحب المسند في الحديث رأى النبي في المنام وقد سقاه لبناً فلما استيقظ استقاء وقاء لبناً أي ليعلم حقيقة هذه الرؤيا وتحقيق قوله عليه السلام : من رآني في المنام فقد رآني في اليقظة فإن الشيطان لا يتمثل على صورتي ولو عبر رؤياه لكان ذلك اللبن علماً فحرمه الله علماً كثيراً على قدر ما شرب من اللبن، ثم قاء، ووجه كون اللبن علماً أنه أول ما يظهر بصورة الحياة ويغتذى به الحيوان فيصير حياً، كما أن العلم أول ما يتعين به الذات فيظهر عالماً، ثم إن رآه عليه السلام أحد في المنام بصورته التي مات عليها من غير نقصان من أجزائه ولا تغير في هيئته فإنه يأخذ عنه جميع ما يأمره به أو ينهاه أو يخبره من غير تعبير وتأويل، كما كان يأخذ عنه من الأحكام الشرعية لو أدركه في الحياة الدنيا إلا أن يكون الللفظ مجملاً فإنه يؤوله، فإن أعطاه شيئاً في المنام فإن ذلك الشيء هو الذي يدخله التعبير، فإن خرج في الحس كما كان في الخيال فتلك الرؤيا لا تعبير لها وحكى أن رجلاً من الصلحاء رأى في المنام أنه لطم النبي عليه السلام فانتبه فزعاً وهاله ما رأى مع جلالة النبي عليه السلام عنده فأتى بعض الشيوخ فعرض عليه رؤياه، فقال له الشيخ : إعلم أنه عليه السلام أعظم من أن يكون عليه يد لك أو لغيرك، والذي رأيته لم يكن النبي عليه السلام إنما هو شرعه، قد أخللت بحكم من أحكامه وكون اللطم في الوجه يدل على أنك ارتكبت أمراً محرماً من الكبائر فافتكر الرجل في نفسه فلم يذكر أنه أقدم على محرم من الكبائر وكان من أهل الدين ولم يتهم الشيخ في تعبيره لعلمه بإصابته فيما كان يعبره، فرجع إلى بيته حزيناً فسألته زوجته عن سبب حزنه فأخبرها برؤياه وتعبير الشيخ فتعجبت الزوجة وأظهرت التوبة وقالت أنا أصدقك كنت حلفت أني إن دخلت دار فلان أحد معارفك فإني طالق، فعبرت على بابهم فحلفوا عليّ فاستحييت من إلحاحهم فدخلت إليهم وخشيت أن
٢٦٦
اذكر لك ما جرى فكتمت الحال، فتاب الرجل واستغفر وتضرع إلى الحق واعتدت المرأة ثم جدد العقد عليها.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٦٥
ومن رأى الحق تعالى في صورة يردها الدليل لزم أن يعبر تلك الصورة التي توجب النقصان ويردها إلى الصورة الكمالية التي جاء بها الشرع، فما لم يكن عليه لا ينسب إليه تعالى كما في الأسماء، فما لم يطلق الشرع عليه ما لنا أن ننسبه إليه، وتلك الصورة التي ردها الدليل وجعلها مفتقرة إلى التعبير ما في حق حال الرائي يحسب مناسبته لتلك الصورة المردودة والمكان الذي يراه فيه أو في حقهما معاً حكي أن بعض الصالحين في بلاد الغرب رأى الحق تعالى في المنام في دهليز بيته، فلم يلتفت إليه فلطمه في وجهه فلما استيقظ قلق قلقاً شديداً فأخبر الشيخ الأكبر قدس سره بما رأى وفعل، فلما رأى الشيخ ما به من القلق العظيم قال له : أين رأيته؟ قال : في بيت لي قد اشتريته، قال الشيخ : ذلك الموضع مغصوب وهو حق للحق المشروع اشتريته ولم تراع حاله ولم تف بحق الشرع فيه فاستدركه فتفحص الرجل عن ذلك فإذا هو من وقف المسجد وقد بيع بغصب، ولم يعلم الرجل ولم يلتفت إلى أمره فلما تحقق رده إلى وقف المسجد واستغفر الله ولعل الشيخ علم من صلاح الرائي وشدة قلقه أنه ليس من قبيل الرائي فسأله عن المكان الذي رأى فيه فمثل هذا إذا رؤي يجب تأويله، وأما إذا كان التجلي في الصورة النورية كصورة الشمس أو غيرها من صور الأنوار كالنور الأبيض والأخضر وغير ذلك أبقينا تلك الصورة المرئية على ما رأينا كما نرى الحق في الآخرة فإن تلك الرؤية تكون على قدر استعدادنا فافهم المراتب والمواطن حتى لا تزل قدمك عن رعاية الظاهر والباطن.
وقد جاء في الحديث : أن الحق يتجلى بصورة النقصان فينكرونه، ثم يتحول ويتجلى بصورة الكمال والعظمة فيقبلونه ويسجدون له فمن صورة مقبولة ومن صورة مردودة فما يحتاج إلى التعبير ينبغي أن لا يترك على حاله فإن موطن الرؤيا وهو عالم المثال يقتضي التعبير ولذا قال ملك مصر.
أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٦٥
﴿قَالُوا﴾ استئناف بياني فكأنه قيل فماذا قال : الملأ للملك فقيل قالوا هي : اضغاث أحلام تخاليطها أي أباطيلها وأكاذيبها من حديث نفس أو وسوسة شيطان، فإن الرؤيا ثلاث، رؤيا من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما حدث المرء نفسه على ما ورد في الحديث.
والاضغاث جمع ضغث.