روى أنه لما دخل على الملك قال اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرك من شره ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية وكان يوسف يتكلم باثنين وسبعين لساناً فلم يفهمها الملك فقال : ما هذا اللسان؟ قال : لسان آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ثم كلمه بالعربية فلم يفهمها الملك فقال : ما هذا اللسان؟ قال : لسان عمي إسماعيل وكان الملك يتكلم بسبعين لساناً فكلمه بها فأجابه بجميعها فتعجب منه، وفيه إشارة إلى حال أهل الكشف مع أهل الحجاب فإن أصحاب الحقيقة، يتكلمون في كل مرتبة شريعة كانت أو طريقة أو معرفة أو حقيقة وأما أرباب الظاهر فلا قدرة لهم على التكلم إلا في مرتبة الشريعة وعلمان خير من علم واحد، وقال الملك : أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك فحكاها فعبرها يوسف على وجه بديع وأجاب لكل ما سأل بأسلوب عجيب :
جوابي دلكشن ومطبوع كفتش
نان كامدازان كفتن شكفتش
٢٧٧
وفي الآية إشارتان.
الأولى أن الروح يسعى في خلاص القلب من سجن صفات البشرية ليكون خالصاً له في كشف حقائق الأشياء ولم يعلم أنه خلق لصلاح جميع رعايا مملكته روحانية وجسمانية كما قال عليه السلام : إن في جسد ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح بها سائر الجسد وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد ألا وهي القلب.
والثانية : أن الله استحسن من الملك إحسانه مع يوسف واستخلاصه من السجن فأحسن إليه بأن رزقه الإيمان واستخلصه من سجن الكفر والجهل وجعله خالصاً لحضرته بالعبودية وترك الدنيا وزخارفها وطلب الآخرة ودرجاتها.
قال مجاهد : أسلم الملك على يده وجمع كثير من الناس لأنه كان مبعوثاً إلى القوم الذين كان بين أظهرهم.
يقول الفقير أيده الله القدير : إذا كان الإحسان إلى يوسف والإكرام له سبباً للإيمان والعرفان فما ظنك بمن آسى رسول الله وذب عنه ما دام حياً وهو عمه أبو طالب فالأصح أنه ممن أحياه الله للإيمان كما سبق في الجلد الأول.
واعلم : أن اللطف والكرم من آثار السعادة الأزلية فلو صدر من الكافر يرجى أن ذلك يدعوه إلى الإيمان والتوحيد ويصير عاقبته إلى الفلاح والنجاح ولو صدر من أهل الإنكار أداه إلى الاستسعاد بسعادة التوفيق الخاص كما لا يخفى على أهل المشاهدة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٧٦
قال يوسف اجعلني على خزائن الأرض أي أرض مصر فاللام للعهد، أي ولني أمرها من الإيراد والصرف (يعني مرا بر آنه حاصل ولايت مصر باشد از نقود واطعمه خازن كردان) إني حفيظ لها عمن لا يستحقها عليم بوجوه التصرف فيها.
وذلك أنه لما عبر رؤيا الملك وأخبر بإتيان السنين المجدبة قال له : فما ترى يا يوسف؟ قال : تزرع زرعاً كثيراً وتأخذ من الناس خمس زروعهم في السنين المخصبة وتدخر الجميع في سنبله فيكفيك وأهل مصر مدة السنين المجدبة.
وفي بحر العلوم قال ل : ه من حقك أن تجمع الطعام في الأهراء فيأتيك الخلق من النواحي ويمتارون منك ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك، فقال الملك : ومن لي بذاك فقال اجعلني الآية.
ولى هركاررا بايد كفيلي
كه از دانش بود باوى دليلي
بدانش غايت آن كار داند
و داند كاررا كردن تواند
زهر يزى كه در عالم توان يافت
و من دانا كفيلي كم توان يافت
بمن تفويض كن تدبير اين كار
كه نابد ديكرى ون من بدايدار
وذلك لأنه علم في الرؤيا التي رآها الملك أن الناس يصيبهم القحط فخاف عليهم القحط والتلف، فأحب أن تكون يداه على الخزانة ليعينهم وقت الحاجة شفقة على عباد الله وهي من أخلاق الخلفاء، وكانت خدمته معجزة لفراعنة مصر ولهذا قال فرعون زمانه حين بنى الفيوم له : هذا من ملكوت السماء، وهو أول من دون الدفاتر وعين علوم الحساب والهندسة بأنواع الأقلام والحروف.
وفي الآية : دليل على جواز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل وإجراء أحكام الشريعة.
قال العلماء : سؤال تولية الأوقاف مكروه كسؤال تولية الأمارة والقضاء روى أن قوماً جاؤوا إلى النبي عليه السلام فسألوه ولاية فقال : إنا لن نستعمل على عملنا من أراده وذلك لأن الله تعالى يعين المجبور ويسدده ويكل الطالب
٢٧٨
إلى نفسه، والولاية أمور ثقيلة فلا يقدر الإنسان على رعاية حقوقها وإذا تعين أحد للقضاء أو الأمارة أو نحوهما لزمه القبول، لأنها من فروض الكفاية فلا يجوز إهمالها ويوسف عليه السلام كان أصلح من يقوم بما ذكر من التدبير في ذلك الوقت فاقتضت الحال تقلده وتطلبه إصلاحاً للعالم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٧٦