جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٨٨
﴿قَالَ أَبُوهُمْ﴾ لن أرسله معكم بعد ما عاينت منكم ما عاينت حتى تؤتون (تابدهيد مرا) موثقاً من الله أي عهداً موثوقاً به أي معتمداً مؤكداً بالحلف وذكر الله، وهو مصدر ميمي بمعنى الثقة استعمل في الآية بمعنى اسم المفعول أي الموثوق به، وإنما جعله موثقاً منه تعالى لأن توكيد العهود به مأذون فيه من جهته تعالى فهو إذن منه تعالى لتأتنني به جواب القسم إذ المعنى حتى تحلفوا بالله لتأتنني به في كل الأوقات إلا أن يحاط بكم إلا وقت الإحاطة بكم وكونهم محاطاً بهم إما كناية عن كونهم مغلوبين مقهورين بحيث لا يقدرون على إتيانه البتة أو عن هلاكهم وموتهم جميعاً وأصله من العدو فإن من أحاط به العدو يصير مغلوباً عاجزاً عن تنفيذ مراده أو هالكاً بالكلية، ولقد صدقت هذه القصة المثل السائر وهو قولهم البلاء موكل بالمنطق فإن يعقوب عليه السلام قال أولاً في حق يوسف وأخاف أن يأكله الذئب فابتلي من ناحية هذا القول حيث قالوا أكله الذئب وقال ههنا لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فابتلي أيضاً بذلك وأحيط بهم وغلبوا عليه كما سيأتي.
قال الكاشفي :(درتبيان فرموده كه اورا بشما ندهم تا سوكند خوريد بحق محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين ايشان قبول نموده بمنزلت حضرت يغمبر ما سوكند خوردند كه درمهم بنيامين غدر نكنند).
فلما آتوه موثقهم عهدهم من الله حسبما أراد يعقوب قال الله على ما نقول وكيل أي على ما قلنا في أثناء طلب الموثق وإيتائه من الجانبين وكيل مطلع رقيب يريد به عرض ثقته بالله وحثهم على مراعاة ميثاقهم.
وفيه إشارة إلى أن التوكل بعد التوكيد كقوله تعالى : فإذا عزمت فتوكل على الله}(آل عمران : ١٥٩) وفي "الكواشي" في قول يعقوب ﴿لَنْ أُرْسِلَه مَعَكُمْ﴾ الآية دليل على جواز التعلق بالأسباب الظاهرة مع صحة التوكل.
وفي المثنوى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٩١
كر توكل ميكنى در كار كن
كشت كن س تكيه برجبا ركن
فينبغي للإنسان أن يجمع بين رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم وبين أن لا يعتمد عليها وأن
٢٩١
لا يراعيها إلا لمحض التعبد، بل بربط قلبه بالله وبتقديره ويعتمد عليه وعلى تدبيره، ويقطع رجاه عن كل شيء سواه وليس الشأن أن لا تترك السبب بل الشأن أن تترك السبب، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية لأن التجريد حال الآخذ من الله بلا واسطة فالمتجرد في هذه الحالة كمن خلع عليه الملك خلعة الرضى فجعل يتشوف لسياسة الدواب.
قال بعض المشايخ مثل المتجرد والمتسبب كعبدين للملك قال لأحدهما إعمل وكل من عمل يدك، وقال للآخر الزم أنت حضرتي وأنا أقوم لك بقسمتي فمتى خرج واحد منهما عن مراد السيد منه فقد أساء الأدب وتعرض لأسباب المقت والعطب والأسباب على أنواع.
فقد قيل : من وقع في مكان بحيث لم يقدر على الطعام والشراب فاشتغل باسم الصمد كفاه والصمدية هي الاستغناء عن الأكل والشرب.
وعن بعضهم أنه سافر للحج على قدم التجريد وعاهد الله سبحانه أن لا يسأل أحداً شيئاً فلما كان في بعض الطريق مكث مدة لا يفتح عليه شيء فعجز عن المشيء ثم قال هذا حال ضرورة تؤدي إلى تهلكة بسبب الضعف المؤدي إلى الانقطاع، وقد نهى الله عن الإلقاء إلى التهلكة ثم عزم على السؤال فلما همّ بذلك انبعث من خاطره رده عن ذلك العزم ثم قال أموت ولا انقض عهداً بيني وبين الله تعالى، فمرت القافلة وانقطع واستقبل القبلة مضجعاً، ينتظر الموت فبينما هو كذلك إذا هو بفارس قائم على رأسه معه إداوة فسقاه وأزال ما به من الضرورة فقال له أتريد القافلة؟ فقال : وأين مني القافلة؟ فقال قم وسار معه خطوات ثم قال قف هنا والقافلة تأتيك فوقف وإذا بالقافلة مقبلة من خلفه فانظر إن البقاء فرع الفناء، فما دام لم يحصل للمرء الفناء عن الوجود لم يجد البقاء من الله ذي الفيض والجود :
يكجو از خر من هستي نتواند برداشت
هركه در كوى فنا درره حق دانه نكشت
وقال يعقوب ناصحاً لبنيه لما ازمع على إرسالهم جميعاً يا بني لا تدخلوا مصر من باب واحد وكان لها أربعة أبواب وادخلوا من أبواب متفرقة أي : من طرق شتى وسكك مختلفة مخافة العين فإن العين والسحر حق، أي كائن أثرهما في المعين والمسحور، وصاهم بذلك في هذه الكرة لأنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة مشتهرين في مصر بالقربة عند الملك فخاف عليهم إن دخلوا جماعة واحدة أن يصابوا بالعين ولم يوصهم في الكرة الأولى لأنهم كانوا مجهولين حينئذٍ مغمورين بين الناس غير متجملين تجملهم في الثانية، وكان الداعي إليها خوفه على بنيامين (در لطائف آورده كه يعقوب در اول مهر دري يداكرد وآخر عجز بندكي آشكار كرد كه كفت) وما أغني عنكم أي : لا أنفعكم ولا أدفع عنكم بتدبيري من الله وقضائه من من زائدة لتأكيد النفي شيء أي : شيئاً فإن الحذر لا يمنع القدر.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٩١
من جهد همي كنم قضا ميكويد