قال القزويني ويختص بعض النفوس من الفطرة بأمر غريب لا يوجب مثله لغيرها، كما ذكر أن في الهند قوماً إذا اهتموا بشيء اعتزلوا عن الناس وصرفوا همتهم إلى ذلك الشيء فيقع على وفق اهتمامهم.
ومن هذا القبيل ما ذكر أن السلطان محمود غزا بلاد الهند وكان فيها مدينة كلما قصدها مرض، فسأل عن ذلك فقيل له إن عندهم جمعاً من الهند إذا صرفوا همتهم إلى ذلك يقع المرض على وفق ما اهتموا، فأشار إليه بعض أصحابه بدق الطبول ونفخ البوقات الكثيرة لتشويش همتهم ففعل ذلك فزال المرض واستخلصوا المدينة فهذا تأثير الهمة، وأما تأثير المحبة فقد حكى أن بعض الناس كان يهوى شاباً يلقب ببدر الدين فاتفق أنه توفى ليلة البدر فلما أقبل الليل وتكمل البدر لم يتمالك محبه رؤيته من شدة الحزن وأنشد يخاطب البدر.
شقيقك غيب في لحده
وتطلع يا بدر من بعده
فهلا خسفت وكان الخسوف
لباس الحداد على فقده
فخسف القمر من ساعته، فانظر إلى صدق هذه المحبة وتأثيرها في القمر وصدق من قال إن المحبة مغناطيس القلوب، وتأثير الأرواح في الأجسام أمر مشاهد محسوس فالتأثير للأرواح ولشدة ارتباطها بالعين نسبت إليها.
قال بعض الحكماء : ودليل ذلك أن ذوات السموم إذا قتلت بعد لسعها خف أثر لسعها لأن الجسد تكيف بكيفية السم وصار قابلاً للانحراف، فما دامت حية فإن نفسها تمده بامتزاج الهواء بنفسها وانتشاق اللمسوع به وهذا مشاهد، ولا أقول إن خاصية قتلها منحصرة فيها فقط بل هي إحدى فوائدها المنقولة عنها، وأصل ذلك كله من إعجاب العائن بالشيء فيتبعه كيفية نفسه الخبيثة فيستعين على تنفيذ سميتها بعينه وقد يعين الرجل نفسه بغير إرادة منه وهذا أردى ما يكون.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٩١
وينبغي أن يعلم أن ذلك لا يختص بالإنس بل قد يكون في الجن أيضاً وقيل عيونهم أنفذ من اسنة الرماح.
وعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام رأى في بيتها جارية وفي وجهها صفرة فقال : استرقوا لها فإن بها النظرة وأراد بها العين أصابتها من الجن.
قال الفقهاء : من عرف بذلك حبسه الإمام وأجرى له النفقة إلى الموت فلما كان أصل ذلك استحسانه.
قال عثمان رضي الله عنه : لما رأى صبياً مليحاً، دسموا نونته لئلا تصيبه العين أي سودوا نقرة ذقنه.
قالوا : ومن هذا القبيل نصب عظام الرؤوس في المزارع والكروم ووجهه أن النظر الشؤم يقع عليه أولاً فتنكسر سورته فلا يظهر أثره، وقد جعل الله لكل داء دواء ولكل شي ضداً فالدعوات والأنفاس الطيبة تقابل الأثر الذي حصل من النفوس الخبيثة، والحواس الفاسدة فتزيله وروى عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال دخلت على رسول الله في أول النهار فرأيته شديد الوجع ثم عدت إليه آخر النهار فرأيته معافي فقال إن جبريل عليه السلام أتاني فرقاني وقال بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن كل عين وحاسد الله يشفيك قال عليه السلام فأفقت وفيه وفيما ذكر
٢٩٤
من حديث أم سلمة دلالة على جواز الاسترقاء وعليه عامة العلماء هذا إذا كانت الرقى من القرآن أو الاذكار المعروفة أما الرقى التي لا يعرف معناه فمكروهة.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت له هلا تنشرت أي تعلمت النشرة وهي الرقية.
قال بعضهم : وفيه دليل على عدم كراهة استعمال النشرة حيث لم ينكر عليه السلام ذلك عليها، وكرهها جمع، واستدلوا بحديث في سنن أبي داود مرفوعاً النشرة من عمل الشيطان وحمل ذلك على النشرة التي تصحبها العزائم المشتملة على الأسماء التي لا تفهم كما قال المطرزي في المغرب إنما تكره الرقية إذا كانت بغير لسان العرب ولا يدرى ما هو ولعله يدخل فيه سحراً وكفراً.
وأما ما كان من القرآن وشيء من الدعوات فلا بأس به.
وأما تعليق التعويذ وهو الدعاء المجرب أو الآية المجربة أو بعض أسماء الله لدفع البلاء فلا بأس به ولكن ينزعه عند الخلاء والقربان إلى النساء كذا في التتارخانية وعند البعض يجوز عدم النزع، إذا كان مستوراً بشيء والأولى النزع.
وكان عليه السلام يعوذ الحسن والحسين رضي الله عنهما فيقول : أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة فعوذوا بها أولادكم فإن إبراهيم كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق رواه البخاري في صحيحه.
وكلمات الله كتبه المنزلة على أنبيائه أو صفات الله كالعزة والقدرة وغيرهما وكونها تامة لعرائها عن النقص والانفصام.
وكان أحمد بن حنبل يستدل بقوله بكلمات الله التامة على أن القرآن غير مخلوق ويقول إن رسول الله لا يستعيذ بمخلوق وما من كلام مخلوق إلا وفيه نقص فالموصوف منه بالتمام غير مخلوق وهو كلام الله تعالى.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٩١


الصفحة التالية
Icon