قلت : لئلا يزيد حزنه النظر إلى أولاده ولسر شهود الجمال، لما ورد في الخبر النبوي يرويه عن جبريل عن ربه قال : يا جبريل ما جزاء من سلبت كريمتيه يعني : عينيه قال : سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، قال تعالى : جزؤاه الخلود في داري ؛ والنظر إلى وجهي وفي الخبر أول من ينظر إلى وجه الرب تعالى الأعمى قال بعض الكبار : أورث ذلك العمى بذهاب بصره النظر إلى الجمال اليوسفي الذي هو مظهر من مظاهر الجمال المطلق ؛ لأن الحق تعالى تجلى بنور الجمال في المجلى اليوسفي فأحبه أبوه وابتلى بحبه أهل مصر من وراء الحجاب.
وفيه إشارة : إلى أنه ما لم يفن العارف العين الكوني الشهادي لا يصل إلى شهود الجمال المطلق :
هر محنتى مقدمه راحتي بود
شد همزبان حق و زبان كليم سوخت
فالعارف يشاهد الجمال المطلق بعين السر في مصر الوجود الإنساني، وينقاد له القوى والحواس جميعاً.
واستدل بالآية على جواز التأسف والبكاء عند النوائب، فإن الكف عن ذلك مما لا يدخل
٣٠٦
تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد.
قال أنس رضي الله عنه دخلنا مع رسول الله على أبي سيف القين، وكان ظئراً لإبراهيم ولده عليه السلام فأخذ رسول الله إبراهيم فقبله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف : وأنت يا رسول الله قال : يا ابن عوف إنها رحمة ثم اتبعها أخرى أي دمعة أخرى فقال : إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
قال في الروضة : وإبراهيم ابن النبي عليه السلام مات في المدينة وهو ابن ثمانية عشر شهراً انتهى.
وإنما الذي لا يجوز ما يفعله الجهلة من الصياح والنياحة ولطم الحدود والصدور وشق الجيوب وتمزيق الثياب.
وعنه عليه السلام أنه بكى على ولد بعض بناته وهو يجود بنفسه فقيل يا رسول الله تبكي وقد نهيتنا عن البكاء فقال : ما نهيتكم عن البكاء وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين صوت عند الفرح وصوت عند الترح قال في المغرب الحمق : نقصان العقل وإنما قيل لصوتي النياحة والترنم في اللعب أحمقان لحمق صاحبهما.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٠٥
والبكاء على ثلاثة أوجه، من الله وعلى الله وإلى الله، فالبكاء منه من توبيخه وتهديده، والبكاء إليه من شوقه ومحبته، والبكاء عليه من خوف الفراق، وفرق الله بين يوسف وأبيه لميله إليه ومحبته عليه والمحبوب يورث المحنة.
والعميان من الأنبياء إسحاق ويعقوب وشعيب.
ومن الأشراف عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وزهرة بن كلاب، ومطعم بن عدي.
ومن الصحابة سواء كان أعمى في عهده أو حدث له بعد وفاته عليه السلام البراء بن عازب، وجابر بن عبد الله، وحسان بن ثابت، والحكم بن أبي العاص، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن يربوع، وصخر بن حرب أبو سفيان، والعباس بن عبد المطلب، وعبد الله بن الأرقم، وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمير، وعبد الله بن أبي أوفى، وعتبان بن مالك، وعتبة بن مسعود الهذلي، وعثمان بن عامر أبو قحافة، وعقيل بن أبي طالب، وعمرو بن أم مكتوم المؤذن، وقتادة بن النعمان.
فهو كظيم مملوء من الغيظ على أولاده ممسك له في قلبه.
در ديست درين سينه كه كفتن نتوانيم
قالوا تالله تفتؤا أي لا تفتأ ولا تزال وحذفت لا لعدم الالتباس ؛ لأنه لو كان إثباتاً للزمه اللام والنون أو إحداهما تذكر يوسف تفجعاً عليه حتى تكون حرضاً مريضاً مشرفاً على الهلاك أو تكون من الهالكين أي الميتين.
وفيه إشارة إلى أنه لا بد للمحب من ملامة الخلق فأول ملامتي في العالم آدم عليه السلام حين طعن فيه الملائكة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها}(البقرة : ٣٠) ولو امعنت النظر رأيت أول ملامتي على الحقيقة حضرة الربوبية لقولهم ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا﴾ وذلك لأنه تعالى كان أول محب ادعى المحبة، وهو قوله : يحبهم فطالما يلوم أهل السلوّ المحبين ومن علامة المحب أن لا يخاف في الله لومة لائم :
ملامت كن مرا ندانكه خواهى
كه نتوان شستن اززنكى سياهى
قال إنما أشكو بثي البث أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه فيبثه إلى الناس، أي ينشره فكأنهم قالوا له ما قالوا بطريق التسلية والأشكاء، فقال لهم إني لا أشكو ما بي إليكم
٣٠٧
أو إلى غيركم حتى تتصدوا للتسلي، وإنما أشكو همي وحزني إلى الله ملتجئاً إلى جنابه تضرعاً لدى بابه في دفعه
رازكويم بخلق وخوار شوم
باتو كويم بزر كوار شوم
والحزن أعم من البث، فإذا عطف على الخاص يراد به الأفراد الباقية، فيكون المعنى لا اذكر الحزن العظيم والحزن القليل إلا مع الله.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٠٥
فإن قيل : لم قال يعقوب فصبر جميل ثم قال يا اسفا على يوسف وقال إنما اشكو بثي وحزني إلى الله فكيف يكون الصبر مع الشكوى؟