قيل : ليس هذا إلا شكاية من النفس إلى خالقها وهو جائز، ألا ترى أن أيوب عليه السلام قال : رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين}(الأنبياء : ٨٣) وقال تعالى مع شكواه إلى ربه في حقه ﴿إِنَّا وَجَدْنَـاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ﴾ لأنه شكا منه إليه وبكى منه عليه فهو المعذور لديه، لأن حقيقة الصبر ومعناه الحقيقي حبس النفس ومنعها عن الشكوى إلى الغير وترك الركون إلى الغير وتحمل الأذى والابتلاء لصدوره من قضائه وقدره، كما قيل بلسان الحقيقة :
كل شيء من المليح مليح
لكن الصبر عنه غير مليح
وقيل :
والصبر عنك فمذموم عواقبه
والصبر في سائر الأشياء محمود
وذلك لأن المحب لا يصبر عن حضرة المحبوب، فلا يزال يعرض حاله وافتقاره إلى حضرته، ولسان العشق لسان التضرع والحكاية لا لسان الجزع والشكاية كما أشار العاشق :
بشنوازنى ون حكايت ميكند
از جداييها شكايت ميكند
يعني : شكاية العارف الواقف في صورة الشكوى حكاية حاله وتضرعه وافتقاره إلى حبيبه.
وعن أنس رضي الله عنه رفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام : أن رجلاً قال ليعقوب : ما الذي اذهب بصرك وحنى ظهرك؟ قال : أما الذي اذهب بصري فالبكاء على يوسف، وأما الذي حنى ظهري فالحزن على أخيه بنيامين؟ فأتاه جبريل فقال : أتشكو إلى غير الله؟ قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، قال جبريل : الله أعلم بما قلت منك، قال ثم انطلق جبريل ودخل يعقوب بيته، فقال أي رب أما ترحم الشيخ الكبير أذهبت بصري وحنيت ظهري فرد على ريحانتي فأشمهما شمة واحدة ثم اصنع بي بعد ما شئت فأتاه جبريل فقال يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول أبشر فإنهما لو كانا ميتين لنشرتهما لك لأقربهما عينك، ويقول لك يا يعقوب أتدري لِمَ أذهبت بصرك وحنيت ظهرك ولِمَ فعل إخوة يوسف بيوسف ما فعلوه؟ قال : لا، قال إنه أتاك يتيم مسكين وهو صائم جائع وذبحت أنت وأهلك شاة فطعمتموها ولم تطعموه، ويقول : إني لم أحب من خلقي شيئاً حبي اليتامى والمساكين فاصنع طعاماً وادع المساكين قال أنس قال عليه السلام : فكان يعقوب كلما أمسى نادى مناديه من كان صائماً فليحضر طعام يعقوب، وإذا أصبح نادى مناديه من كان مفطراً فليفطر على طعام يعقوب ذكره في الترغيب والترهيب.
قال السعدي قدس سره :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٠٥
نخواهى كه باشى برا كنده دل
را اكند كانرا زخاطر مهل
كسى نيك بيند بهر دو سراى
كه نيكي رساند بخلق خداي
وأعلم من الله من لطفه ورحمته ما لا تعلمون فأرجو أن يرحمني ويلطف بي ولا يخيب
٣٠٨
رجائي أو أعلم من الله بنوع من الإلهام ما لا تعلمون من حياة يوسف وروى أنه رأى ملك الموت في منامه فسأله عنه فقال هو حي، وقيل علم من رؤيا يوسف أنه لا يموت حتى يخروا له سجداً وروى أن يوسف قال لجبريل : أيها الروح الأمين هل لك علم بيعقوب قال نعم وهب الله له الصبر الجميل، وابتلاه بالحزن عليك فهو كظيم، قال فما قدر حزنه قال حزن سبعين ثكلى قال فماله من الأجر قال أجر مائة شهيد، وما ساء ظنه بالله ساعة قط.
وقال السدي : لما أخبره ولده بسيرة الملك أحست نفسه فطمع وقال لعله يوسف فقال :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٠٥
يا بَنِىَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} أي تعرفوا من خبرهما بحواسكم فإن التحسس طلب الشيء بالحاسة.
قال في تهذيب المصادر (التحسس مثل التجسس : آكاهى جستن) وفي الإحياء بالجيم في تطلع الأخبار وبالحاء في المراقبة بالعين.
وقال في إنسان العيون ما بالحاء أن يفحص الشخص عن الأخبار بنفسه وما بالجيم أن يفحص عنها بغيره وجاء تحسسوا ولا تجسسوا انتهى.
والمراد بأخيه بنيامين، ولم يذكر الثالث وهو الذي قال فلن أبرح الأرض واحتبس بمصر لأن غيبته اختيارية لا يعسر إزالتها.
قال ابن الشيخ : فإن قلت كيف خاطبهم بهذا اللطف وقد تولى عنهم؟ فالجواب أن التولي التجاء إلى الله والشكاية إليه والإعراض عن الشكاية إلى أحد منهم ومن غيرهم، لا ينافي الملاطفة والمكالمة معهم في أمر آخر انتهى.
قالوا لهأما بنيامين فلا نترك الجهد في أمره، وأما يوسف فإنه ميت وإنا لا نطلب الأموات فإنه أكله الذئب منذ زمان، فقال لهم يعقوب : ولا تيأسوا من روح الله لا تقنطوا من فرجه وتنفيسه واليأس والقنوط انقطاع الرجاء.
وعن الأصمعي : إن الروح ما يجد الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه وتركيب الراء والواو والحاء يفيد الحركة والاهتزاز فكل ما يلتذ الإنسان ويهتز بوجوده فهو روح.
قال في الكواشي : أصله استراحة القلب من غمه ؛ والمعنى لا تقنطوا من راحة تأتيكم من الله انتهى.