﴿كَذَالِكَ﴾ أي مثل إرسالنا الرسل إلى أممهم قبلك يا محمد أرسلناك في أمة بمعنى إلى كما في قوله تعالى : فردّوا أيديهم في أفواههم وفي بحر العلوم وإنما عدى الإرسال بفي وحقه أن يعدي بالي ؛ لأن الأمة موضع الإرسال قد خلت مضت وتقدمت من قبلها عائد إلى أمة على لفظها.
أمم أرسلوا إليهم فليس ببدع إرسالك إلى أمتك ثم علل الإرسال فقال : لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك ضمير عليهم راجع إلى أمة على معناها، أي لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الذي أوحينا إليك وهو القرآن وما فيه من شرائع الإسلام وتزينهم بحلية الإيمان، فإن المقصود من نزول القرآن هو العمل بما فيه وتحصيل السيرة الحسنة لا التلاوة المحضة والاستماع المجرد فالعامي المتعبد راجل، سالك والعالم المتهاون راكب نائم.
قال السعدي :(تلميذ بي ارادت عاشق بي زرست ورونده بي معرفت مرغ بي رو عالم بي عمل درخت بي بر وزاهد بي علم خانه بي در) وهم يكفرون بالرحمن حال من فاعل أرسلناك، أي وحالهم إنهم يكفرون بالله الواسع الرحمة، ولا يعرفون قدر رحمته وإنعامه إليهم بإرسالك وإنزال القرآن العظيم عليهم وروى أن أبا جهل سمع النبي عليه السلام وهو في الحجر يدعو يا الله يا رحمن فرجع إلى المشركين، وقال : إن محمداً يدعو إلهين يدعو الله ويدعو آخر يسمى الرحمن ولا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة يعني، به مسليمة الكذاب صاحب اليمامة وهي بلدة في البادية فنزلت هذه الآية قل لهم يا محمد هو أي الرحمن الذي كفرتم به وأنكرتم معرفته ربي خالقي ومتولي أمري لا إله إلا هو خبر بعد خبر أي هو مجامع لهذين الوصفين من الربوبية والألوهية فلا مستحق للعبادة سواه ومعنى لا إله إلا هو الواحد المختص بالإلهية عليه توكلت إليه أسندت أمري في العصمة من شركم والنصرة عليكم وإليه لا إلى غيره متاب مصدر تاب يتوب واصله متابي أي مرجعي ومرجعكم فيرحمني وينتقم لي منكم والانتقام من الرحمن أشد، ولذا قيل نعوذ بالله من غضب الحليم.
قال الحافظ :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٧٥
بمهلتي كه سهرت دهد زراه مرو
تراكه كفت كه اين زال ترك دستان كفت
والإشارة : أن الأمم لما كفروا بالله كفروا بالرحمن ؛ لأن الرحمانية قد اقتضت إيجاد المخلوقات فإن القهارية كانت مقتضية الواحدية بأن لا يكون معه أحد، فسبقت الرحمانية القهارية في إيجاد المخلوقات ولهذا السر قال تعالى : إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً}(مريم : ٩٣) فأرسل الله الرسل وانزل معهم الكتب ليقرأوا عليهم ويذكروهم بأيام الله التي كان الله ولم يكن معه شيء ثم أوجدهم وأخرجهم من العدم إلى الوجود وهو الذي رب كل شيء وخالقه ولا إله إلا هو وإليه المرجع والمآب
٣٧٥
كما في "التأويلات النجمية".
يقول الفقير : عبارة الخطاب في أرسلناك للنبي صلى الله عليه وسلّم فهو المرسل لغة واصطلاحاً وصاحب الوحي والدعوة وإشارته لكل واحد من ورثته الذين هم على مشربه إلى يوم القيامة بحسب كونه مظهراً لأرثه فهو المرسل لغة لا اصطلاحا وصاحب الإلهام والإرشاد وكما أن لكل زمان صاحب دولة وظهور فكذا له صاحب رحمة وتصرف معنوي، ولذا قال عليه السلام :"علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" فأثبت لهم النبوة بمعنى الإخبار عن الله بالإلهام وفي قوله :﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـانِ﴾ إشارة إلى أن المنعم عليه يجب أن لا يكفر المنعم بل يشكره بالإيمان والاعتقاد كما دل عليه ما قبله، والكفر والانكار من أقبح القبائح كما أن الإيمان والإقرار من أحسن المحاسن ولحسن الظن والاعتقاد الحسن تأثير بليغ روى أن جماعة من السراق نزلوا على أهل رباط فسأل عنهم صاحب الرباط فاستحيوا منه وقالوا نحن الغزاة فهيأ لهم طعاماً وجاءت امرأة بطست ليغسلوا أيديهم قبل الطعام وقالت إن لي بنتاً عمياء أغسلها تبركاً بغسالة الغزاة فغسلوا فغسلت المرأة وجه ابنتها بها فأصبحت سالمة من العمى.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٧٥