وأفصلهم أراد أن يجمع أمته على كتاب واحد منزل بلسان هو سيد الألسنة وأشرفها وأفضلها إعطاء للأشرف الأشرف وذلك هو اللسان العربي الذي هو لسان قومه ولسان أهل الجنة فكان سائر الألسنة تابعاً له كما أن الناس تابع للعرب، مع ما فيه من الغنى عن النزول بجميع الألسنة لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل أي يبعث الرسل إلى الأطراف يدعونهم إلى الله ويترجمون لهم بألسنتهم يقال ترجم لسانه إذا فسره بلسان آخر ومنه الترجمان كما في الصحاح.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٩٥
قال في لسان العيون : أما قول اليهود أو بعضهم وهم العيسوية طائفة من اليهود أتباع عيسى الأصفهاني أنه عليه السلام إنما بعث للعرب خاصة دون بني إسرائيل وأنه صادق ففاسد لأنهم إذا أسلموا أنه رسول الله وأنه صادق لا يكذب لزمهم التناقض لأنه ثبت بالتواتر عنه أنه رسول الله لكل الناس ثم قال ولا ينافيه قوله تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه}(إبراهيم : ٤) لأنه لا يدل على اقتصار رسالته عليهم بل على كونه متكلماً بلغتهم ليفهموا عنه أو لا، ثم يبلغ الشاهد الغائب ويحصل الأفهام لغير أهل تلك اللغة من الأعاجم بالتراجم الذين أرسلوا إليهم فهو صلى الله عليه وسلّم مبعوث إلى الكافة وإن كان هو وكتابه عربيين، كما كان موسى وعيسى عليهما السلام مبعوثين إلى بني إسرائيل بكتابيهما العبراني وهو التوراة والسرياني وهو الانجيل، مع أن من جملتهم جماعة لا يفهمون بالعبرانية ولا بالسريانية كالأروام فإن لغتهم اليونانية انتهى.
والحاصل أن الإرشاد لا يحصل إلا بمعرفة اللسان ـ ـ حكى ـ ـ إن أربعة رجال عجمي وعربي وتركي ورومي وجدوا في الطريق درهماً فاختلفوا فيه ولم يفهم واحد منهم مراد الآخر فسألهم رجل آخر يعرف الألسنة فقال للعربي أي شيء تريد؟ وللعجمي (ه ميخواهى) وللتركي "نه استرسين" وعلم أن مراد الكل أن يأخذوا بذلك الدرهم عنباً ويأكلوه فأخذ هذا العارف الدرهم منهم واشترى لهم عنباً فارتفع الخلاف من بينهم بسبب معرفة ذلك الرجل لسانهم ـ ـ وحكى ـ ـ أن بعض أهل الانكار ألحوا على بعض من المشايخ الأميين أن يعظ لهم باللسان العربي تعجيزاً له وتفضيحاً فحزن لذلك فرأى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمره بما التمسوا منه من الوعظ فأصبح متكلماً بذلك اللسان وحقق القرآن بحقائق عجزوا عنها وقال أمسيت كرديا وأصبحت عربياً.
وفي "المثنوى" :
خويش راصافي كن از اوصاف خويش
تاببيني ذات اك صاف خويش
بيني اندر دل علوم انبيا
بي كتاب وبي معيد واوستا
سر امسينا لكرديا بدان
راز اصبحنا عرابيا بخوان
﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ﴾ إضلاله أي : يخلق فيه الكفر والضلال لمباشر الأسباب المؤدية إليه.
قال الكاشفي :(س كمراه كرداند خداي تعالى هركه را خواهد يعني فرو كذا ردتاكه كمراه شود) والفاء فصيحة مثلها في قوله تعالى : أن اضرب بعصاك البحر فانفلق}(الشعراء : ٦٣) كأنه قيل فبينوه لهم فاضل الله منهم من شاء إضلاله لما لا يليق إلا به.
﴿وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ﴾ هدايته أي يخلق فيه الإيمان والاهتداء لاستحقاقه له لما فيه من الإنابة والإقبال إلى الحق.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٩٥
قال الكاشفي :(وراه نمايد هركه را خواهد يني توفيق دهدتاراه يابد) وهو العزيز الغالب على كل شيء فلا يغالب في مشيئته الحكيم الذي لا يفعل شيئاً من الاضلال والهداية إلا لحكمة بالغة وفيه أن
٣٩٦
ما فوض إلى الرسل إنما هو تبليغ الرسالة وتبيين طريق الحق وأما الهداية والإرشاد إليه فذلك بيد الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وفي التأويلات النجمية وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه أي ليتكلم معهم بلسان عقولهم ليبين لهم الطريق إلى الله وطريق الخروج من ظلمات أنانيتهم إلى نور هويته فيضل الله من يشاء في أنانيته ويهدي من يشاء بالخروج إلى هويته وهو العزيز أي هو أعز من أن يهدي كل واحد إلى هويته الحكيم بأن يهدي من هو المستحق للهداية إليه فمن هذا تحقق إنه تعالى هو الذي يخرجهم من الظلمات إلى النور لا غيره انتهى.
فعلى العاقل أن يصرف اختياره في طريق الحق ويجتهد في الخروج من بوادي الأنانية فقد بين الله الطريق وأرشد إلى الأسباب فلم يبق إلا الدخول والانتساب.
قال بعض الكبار : النظر الصحيح يؤدي إلى معرفة الحق وذلك بالانتقال من معلوم إلى معلوم إلى أن ينتهي إلى الحق لكن طريق التصور والفكر وأهله لا يتخلص من الأنانية والاثنينينة وأما المكاشفة فليس فيها الانتقال المذكور وطريقها الذكر ألا ترى إلى قوله تعالى : الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض}(آل عمران : ١٩١) كيف قدم الذكر على الفكر فالطريقة الأولى طريقة الإشراقيين والثانية طريقة الصوفية المحققين.