والإشارة الله الذي خلق السموات سموات القلوب والأرض أرض النفوس وانزل من السماء من سماء القلوب ماء ماء الحكمة فاخرج به من الثمرات من ثمرات الطاعات رزقاً لأرواحكم فإن الطاعات غذاء الأرواح كما أن الطعام غذاء الأبدان وسخر لكم الفلك فلك الشريعة لتجري في البحر في بحر الطريقة بأمره بأمر الحق لا بأمر الهوى والطبع لأن استعمال فلك الشريعة إذا كان بأمر الهوى والطبع سريعاً ينكسر ويغرق ولا يبلغ ساحل الحقيقة إلا بأمر أولي الأمر وملاحيه وهو الشيخ الواصل الكامل المكمل كما قال تعالى : اطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم وقال النبي عليه السلام : من أطاع أميري فقد أطاعني ومن أطاعني فقد أطاع الله وكم من سفن لأرباب الطلب لما شرعت في هذا البحر بالطبع انكسرت بنكباء الأهواء وتلاطم أمواج الغرة وانقطعت دون ساحلها وسخر لكم الأنهار أنهار العلوم اللدنية وسخر لكم الشمس شمس الكشوف والقمر قمر المشاهدات دائبين بالكشف والمشاهدة وسخر لكم الليل ليل البشرية والنهار نهار الروحانية وتسخير هذه الأشياء عبارة عن جعلها سبباً لاستكمال استعداد الانسان في قبول الفيض الإلهي المختص به من بين سائر المخلوقات وفي قوله.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٢٠
وآتيكم
٤٢٣
من كل ما سألتموه إشارة إلى أنه تعالى أعطى الإنسان في الأزل حسن استعداد استدعى منه لقبول الفيض الإلهي وهو قوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}(التين : ٤) ثم للابتلاء رده إلى أسفل سافلين ثم آتاه من كل ما سأله من الأسباب التي تخرجه من أسفل سافلين وتصعده إلى أعلى عليين، فإذا امعنت النظر في هذه الآيات رأيت أن العالم بما فيه خلق تبعاً لوجود الإنسان وسبباً لكماليته كما أن الشجرة خلقت تبعاً لوجود الثمرة وسبباً لكماليتها فالإنسان البالغ الكامل الواصل ثمرة شجرة المكونات فافهم جداً ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ﴾ لأن نعمته على الإنسان قسمان قسم يتعلق بالمخلوقات كلها وقد بينا أنها خلقت لاستكمال الإنسان وهذه النعمة لا يحصى عدها لأن فوائدها عائدة إلى الإنسان إلى الأبد وهي غير متناهية فلا يحصى عدها وقسم يتعلق بعواطف الوهيته وعوارف ربوبيته فهي أيضاً غير متناهية إن الإنسان لظلوم لنفسه بأن يفسد هذا الاستعداد الكامل بالاعراض عن الحق والاقبال على الباطل.
كفار لأنعم الله إذ لم يعرف قدرها ولم يشكر لها وجعلها نقمة لنفسه بعد ما كانت نعمة من ربه كما في التأويلات النجمية وإذ قال إبراهيم واذكر وقت قول إبراهيم في مناجاته أي بعد الفراغ من بناء البيت رب اجعل هذا البلد (اين شهر مكه را) آمنا أهله بحيث لا يخاف فيه من المخاوف والمكاره كالقتل والغارة والأمراض المنفرة من البرص والجذام ونحوهما فإسناد الأمن إلى البلد مجاز لوقوع الأمن فيه وإنما الآمن في الحقيقة أهل البلد واجنبني وبني يقال جنبه كنصره وأجنبته وجنبته أي أبعدته.
والمعنى بعدني وإياهم أن نعبد الأصنام واجعلنا منه في جانب بعيد، أي ثبتنا على ما كنا عليه من التوحيد وملة الإسلام والبعد عن عبادة الأصنام.
قال بعضهم : رأى القوم يعبدون الأصنام فخاف على بنيه فدعا.
يقول الفقير : الجمهور على أن العرب من عهد إبراهيم استمرت على دينه من رفض عبادة الأصنام إلى زمن عمرو بن لحي كبير خزاعة فهو أول من غير دين إبراهيم وشرع للعرب الضلالات وهو أول من نصب الأوثان في الكعبة وعبدها، وأمر الناس بعبادتها وقد كان أكثر الناس في الأرض المقدسة عبدة الأصنام وكان إبراهيم يعرفه فخاف سرايته إلى كل بلد فيه واحد من أولاده فدعا فعصم أولاده الصلبية من ذلك، وهي المرادة من قوله : وبنى فإنه لم يعبد أحد منهم الصنم لا هي وأحفاده وجميع ذريته وذلك لأن قريشاً مع كونهم من أولاد إسماعيل عبادتهم الأصنام مشهورة وأما قوله تعالى في حم الزخرف : وجعلها كلمة باقية في عقبه}(الزخرف : ٢٨) فالصحيح أن هذا لا يستلزم تباعد جميع الأحفاد عن عبادة الأصنام بل يكفي في بقاء كلمة التوحيد في عقبه أن لا ينقرض قرن ولا ينقضى زمان إلا وفي ذريته من هو من أهل التوحيد قلوا أو كثروا إلى زمان نبينا صلى الله عليه وسلّم وقد اشتهر في كتب السير أن بعض آحاد العرب لم يعبد الصنم قط ويدل عليه قوله عليه السلام :"لا تسبوا مضر فإنه كان على ملة إبراهيم" هذا مالاح لي من التحقيق ومن الله التوفيق.
وإنما جمع الأصنام ليشتمل على كل صنم عبد من دون الله لأن الجمع المعرف باللام يشمل كل واحد من الأفراد كالمفرد باتفاق جمهور أئمة التفسير والأصول والنحو، أي واجنبنا أن نعبد أحداً مما سمى بالصنم كما في "بحر العلوم"
٤٢٤
وخصصها الامام الغزالي بالحجرين أي الذهب والفضة إذ رتبة النبوة أجل من أن يخشى فيها أن تعتقد الإلهية في شيء من الحجارة فاستعاذ إبراهيم من الاغترار بمتاع الدنيا.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٢٠


الصفحة التالية
Icon