ولقد أرسلنا أي رسلاً وإنما لم يذكر لدلالة ما بعده عليه من قبلك متعلق بأرسلنا.
في شيع الأولين أي : فرقهم وأحزابهم جمع شيعة وهي الفرقة المتفقة على طريقة ومذهب، سموا بذلك لأن بعضهم يشايع بعضاً ويتابعه، من شايعه إذا تبعه ومنه الشيعة وهم الذين شايعوا علياً وقالوا إنه الامام بعد رسول الله، واعتقدوا أن الامامة لا تخرج عنه وعن أولاده وإضافته إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى صفة عند الفراء، والأصل في الشيع الأولين ومن حذف الموصوف عند البصريين أي في شيع الأمم الأولين، ومعنى إرسالهم فيهم جعل كل منهم رسولاً فيما بين طائفة منهم ليتابعوه في كل ما يأتي وما يذر من أمور الدين.
وما يأتيهم من رسول أي ما أتى شيعة من تلك الشيع رسول خاص بها.
إلا كانوا به يستهزئون كما يفعله هؤلاء الكفرة وفيه تسلية لرسول الله بأن هذه عادة الجهال مع الأنبياء، والجملة في محل النصب على أنها حال مقدرة من ضمير مفعول في يأتيهم إذا كان المراد بالاتيان حدوثه، أو في محل الرفع على أنها صفة لرسول فإن محله الرفع على الفاعلية أي إلا رسول كانوا به يستهزئون.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٤٣
﴿كَذَالِكَ﴾ أي : كإدخالنا الاستهزاء في قلوب الأولين.
نسلكه أي : ندخل الاستهزاء، والسلك إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط أي الأبرة والرمح في المطعون.
في قلوب المجرمين على معنى أنه يخلقه ويزينه في قلوبهم والمراد بالمجرمين مشركوا مكة ومن شايعهم في الاستهزاء والتكذيب.
لا يؤمنون به أي بالذكر وهو بيان للجملة السابقة واختار المولى أبو السعود رحمه الله أن يكون ذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام السابق من إلقاء الوحي مقروناً بالاستهزاء، وأن يعود ضمير نسلكه وبه إلى الذكر على أن يكون لا يؤمنون به حالاً من ضمير نسلكه، والمعنى أي مثل ذلك المسلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين
٤٤٥
برسلهم وبما جاؤوا به من الكتب، نسلك الذكر في قلوب أهل مكة أو جنس المجرمين حال كونه مكذباً غير مؤمن به، لأنهم كانوا يسمعون القرآن بقراءة النبي فيدخل في قلوبهم، ومع ذلك لا يؤمنون لعدم استعدادهم لقبول الحق لكونهم من أهل الخذلان.
قال السعدي قدس سره :
كسى را كه ندار در سر بود
مندار هر كزكه حق بشنود
زعلمش ملال آيد ازوعظ ننك
شقائق بباران نرويد ز سنك
قال سعدي المفتي : مكذباً أي حال الإلقاء من غير توقف كقوله تعالى : فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به}(البقرة : ٨٩) أي : في ذلك الزمان من غير توقف وتفكر فلا حاجة إلى جعلها حالاً مقدرة أي كما فعله الطيبي.
وفي "التأويلات النجمية" [الحجر : ١٢-١٥٥]﴿كَذَالِكَ نَسْلُكُهُ﴾ أي : الكفر في قلوب المجرمين لا يؤمنون به بواسطة جرمهم فإن بالجرم يسلك الكفر في القلوب كما يسلك الإيمان بالعمل الصالح في القلوب نظيره بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً}(النساء : ١٥٥) ﴿وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الاوَّلِينَ﴾ أي : قد مضت طريقتهم التي سنها الله في إهلاكهم حين فعلوا ما فعلوا من التكذيب والاستهزاء، يعني :(هركه از ايشان هلاك شده بترك قبول حق وتكذيب رسل بوده) وفيه وعيد لأهل مكة على استهزائهم وتكذيبهم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٤٥
نه هر كز شنيدم درين عمر خويش
كه بدمردار نيكى آمد به بيش
ولو فتحنا عليهم أي على هؤلاء المقترحين المعاندين الذين يقولون لو ما تأتينا بالملائكة بابا من السماء أي باباً ما لا باباً من أبوابها المعهودة، كما قيل ويسرنا لهم الرقى والصعود إليه فظلوا.
قال في بحر العلوم الظلول بمعنى الصيرورة كما يستعمل أكثر الأفعال الناقصة بمعناها أي فصاروا فيه أي : في ذلك الباب يعرجون يصعدون بآلة أو بغيرها ويرون ما فيها من العجائب عياناً أو فظل الملائكة يصعدون وهم يشاهدونهم، ويقال ظل يعمل كذا إذا علمه بالنهار دون الليل، فالمعنى فظل الملائكة الذين اقترحوا إتيانهم يعرجون في ذلك الباب وهم يروه عياناً، مستوضحين طول نهارهم كما قال الكاشفي :(س باشند همه روزفر شتكان در نظر ايشان دران بر بالاميروند وازان در زير مى آيند).
لقالوا لغاية عنادهم وتشكيكهم في الحق إنما سكرت أبصارنا أي سدت من باب الاحساس.
يعني (اين صورت در خارج وجود ندارد).
قال في القاموس : قوله تعالى : سكرت أبصارنا أي حبست عن النظر وحيرت أو غطيت وغشيت.