يقول الفقير إنما يستعيذ عليه السلام من الشيطان امتثالاً للأمر الإلهي لا غير، إذ لا تسلط له على أفراد أمته المخلصين بالفتح فضلاً عن التسلط عليه وهو آيس من وسوسته صلى الله عليه وسلّم لأنه يحترق من نوره عليه السلام فلا يقرب منه، وأما قوله تعالى :﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ (الأعراف : ٢٠٠) ففرض وتقدير وتشريع وكذا قوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ (الأعراف : ٢٠١) لا يدل على وقوع المس في حق كل متق، بل يكفي وجوده في حق بعض أفراد الأمة في الجملة ولئن سلم كما يدل عليه قوله تعالى :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّه لا إله إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (الحج : ٥٢) أي إذا قرأ وناجي ألقى الوسوسة في قراءته ومناجاته فهو يعلم أنه عليه السلام لا يعمل بمقتضى وسوسته، لأنه نفسه أخرج المخلصين بالفتح من أن يتعرض لهم أغواء أو يؤثر فيهم وسوسة، ولا مانع من الاستعاذة من كل شيطن سواء كان مؤذياً أم لا، إذ عداوته القديمة لبني آدم مصححة لها، ومن نصب نفسه للعداوة فأولاده تابعة له في ذلك وقد ذكروا أن لوسوسته اليوم في قلوب جميع أهل الدنيا حالة واحدة وهو كقبض عزرائيل عليه السلام الأرواح من بني آدم وهي في مواضع مختلف وهو في مكان واحد.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٤٧
﴿إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ﴾ محله النصب على أنه استثناء متصل، لأن المسترق من جنس الشيطان الرجيم أي إن فسر الحفظ بمنع الشياطين عن التعرض لها على الإطلاق والوقوف على ما فيها في الجملة أو منقطع أي ولكن من استرق السمع أن فسر ذلك بالمنع عن دخولها أو التصرف فيها والاستراق افتعال وبالفارسية :(بدزديدن) والمسترق المستمع مختفياً كما في القاموس والسمع بمعنى المسموع كما قال الكاشفي (بدزدد سخنى مسموع) واستراق السمع اختلاسه سراً شبه به خطفتهم اليسيرة من قطاع السموات لما بينهم من المناسبة في الجوهر.
فاتبعه أي : تبعه ولحقه وبالفارسية (س از ى در آيدش وبدو رسد وبسوزدش) قال ابن الكمال : الفرق قائم بين تبعه واتبعه يقال اتبعه اتباعاً إذا طلب الثاني اللحوق بالأول وتبعه تبعاً إذا مر به ومضى معه شهاب لهب محرق وهي شعلة نار ساطعة مبين ظاهر أمره للمبصرين ومما يجب التنبه له أن هذا حكاية فعل قبل النبي وأن الشياطين كانت تسترق في بعض الأحوال قبل أن يبعثه الله فلما بعث رسول الله كثر الرجم وزاد زيادة ظاهرة حتى تنبه لها الأنس والجن ومنع الاستراق رأساً وبالكلية.
مهى بر آمد وبازار تيركى بشكست
كلى شكفت وهيا هوى خار آخرشد
٤٤٩
ويعضده ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الشياطين كانوا لا يحجبون عن السموات فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سموات ولما ولد محمد عليه السلام منعوا من السموات كلها بالشهب، وما يوجد اليوم من أخبار الجن على ألسنة المخلوقين إنما هو خبر منهم عما يرونه في الأرض مما لا نراه نحن كسرقة سارق أو خبية في مكان خفي، ونحو ذلك، وإن أخبروا بما سيكون كان كذباً كما في آكام المرجان.
وفي الحديث : إن الملائكة تنزل إلى العنان فتذكر الأمر الذي قضى في السماء فيسترق الشيطان السمع فيوحيه إلى الكهان فيكذبون مائة كذبة من عند أنفسهم.
وفي بعض التفاسير إن الشياطين كانوا يركب بعضهم بعضاً إلى السماء الدنيا أو كان الشيطان المارد يصعد ويكون الآخر أسفل منه فإذا سمع قال للذي هو أسفل منه قد كان من الأمر كذا وكذا فيهرب الأسفل لأخبار الكهنة ويرمى المستمع بالشهاب فهم لا يرمون بالكواكب نفسها لأنها قارة بالفلك على حالها وما ذاك إلا كقبس يؤخذ من نار والنار ثابتة كاملة لا تنقص فمنهم من يحرق وجهه وجبينه ويده وحيث يشاء الله ومنهم من يخبل أي يفسد عقله حتى لا يعود إلى الاستماع من السماء فيصير غولاً فيضل الناس في البوادي ويغتالهم أي يهلكهم ويأخذهم من حيث لم يدروا.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٤٧
قال ابن الأثير في النهاية : الغول أحدالغيلان وهي جنس من الجن والشيطان، وكانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تترا أي للناس فتتلون تلونا في صور شتى تضلهم عن الطريق وتهلكهم انتهى.
وفيه إشارة إلى أن وجود الغول لا ينكر، بل المنكر تشكلهم بأشكال مختلفة وإهلاكهم بني آدم وهو مخالف لما سبق آنفاً من التفاسير اللهم إلا أن يراد أن ذلك قبل بعثة النبي عليه السلام وقد أبطله عليه السلام بقوله : لا غول ولكن السعالي أي : لا يستطيع الغول أن يضل أحداً فلا معنى للزعم المذكور.
والسعالى بالسين المفتوحة والعين المهملة سحرة الجن جمع سعلاة بالكسر ولكن في الجن سحرة تتلبس وتتخيل لهم.
قال في أنوار المشارق : والذي ذهب إليه المحققون أن الغول شيء يخوف به ولا وجود له كما قال الشاعر :
الجود والغول والعنقاء ثالثة


الصفحة التالية
Icon