وفيه إشارة أخرى إلى سير السائرين وطيران الطائرين في هواء العبودية وفضاء الربونية إنما يكون على قدمي الخوف والرجاء وبجناحي الأنس والهيبة معتدلاً فيهما من غير زيادة إحداهما على الأخرى وفي الروضة لقي يحيى عيسى عليهما السلام فتبسم عيسى على وجه يحيى فقال مالي أراك لاهياً كأنك آمن؟ فقال : مالي أراك عابساً كأنك آيس؟ فقالا لا نبرح حتى ينزل علينا الوحي فأوحى الله تعالى أحبكما إليّ أحسنكما ظناً بي، وروى أحبكما إلى الطلق البسام ولم يزل زكريا عليه السلام يرى ولده يحيى مغموماً باكياً مشغولاً بنفسه فقال يا رب طلبت ولداً انتفع به قال طلبته ولياً والولي لا يكون إلا هكذا.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٧٣
قال مسروق : إن المخافة قبل الرجاء فإن الله تعالى خلق جنة وناراً فلن تخلصوا إلى الجنة حتى تمروا بالنار.
يقول الفقير : الذي ينبغي أن يقدمه العبد هو الخوف لأنه الأصل وفيه تخلية القلب من الأماني الفاسد ولا ينافيه كون متعلق الرجاء هو السابق وهو رحمة الله الواسعة فإنها الأصل وهو بالنسبة إلى صفات الله ولذا جاء في الحديث : لو يعلم العبد قدر رحمة الله
٤٧٣
ما تورع عن حرام ولو يعلم العبد قدر عقوبة الله لبخع نفسه أي أهلكها في عبادة الله تعالى ولما أقدم على ذنب.
واعلم أن أسباب المغفرة كثيرة أعظمها العشق والمحبة فإن الله تعالى إنما خلق الأنس والجن للعبادة الموصلة إلى المعرفة الإلهية والجذبة الربانية.
قال الحافظ :
هرند غرق بحر كناهم زشش جهت
كر آشناى عشق شوم غرق رحمتم
وأسباب العذاب أيضاً كثيرة أعظمها الجهل بالله تعالى وصفاته.
فعلى العاقل أن يجتهد في طريق العشق والمحبة والمعرفة إلى أن يصل إلى المراد ويستريح من تعب الطلب والاجتهاد فإن الواصل إلى المنزل مستريح.
وقد قيل الصوفي من لا مذهب له، وأما من بقي في الطريق فهو في أصبعي الرحمن لا يزال يتقلب من حال إلى حال ومن أمن إلى خوف وبالعكس إلى أن تنقطع الاضافات وعند ذلك يعتدل حاله ويستقيم ميزان علمه وعمله فيعبد الله تعالى إلى أن يأتيه اليقين وهو الموت ونبئهم وأخبر أمتك يا محمد عن ضيف إبراهيم يستوي فيه القليل والكثير أي أضيافه وهو جبريل مع أحد عشر ملكاً على صورة الغلمان الوضاء وجوههم جعلهم ضيفاً، لأنهم كانوا في صورة الضيف أو لكونهم ضيفاً في حسبان إبراهيم عليه السلام.
إذ دخلوا عليه ظرف لضيف فإنه مصدر في الأصل.
فقالوا عند دخولهم عليه سلاماً أي : نسلم سلاماً قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذٍ، فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة.
قال إبراهيم إنا منكم وجلون خائفون فإن الوجل اضطراب النفس لتوقع مكروه وإنما قاله عليه السلام حين امتنعوا من أكل ما قربه إليهم من العجل الحنيذ، لما إن المعتاد عندهم أنه إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يجيء بخير لا عند ابتداء دخولهم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٧٣
﴿قَالُوا﴾ أي الملائكة لا توجل لا تخف يا إبراهيم إنا نبشرك استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل فإن المبشر به لا يكاد يحوم حول ساحته خوف ولا حزن كيف لا؟ وهو بشارة ببقائه وبقاء أهله في عافية وسلامة زماناً طويلاً.
والبشارة هو الأخبار بما يظهر سرور المخبر به.
والمعنى بالفارسية (بدرستى ترامده ميدهيم) بغلام (به بشرى اسحاق نام) عليم أي إذا بلغ.
يعني (وقتى كه بلوغ رسد علم نبوت بوي خواهد رسيد).
قال أبشرتموني (آيا بشارت ميدهيد مرا) على أن مسنى الكبر وأثر فيّ والاستفهام للتعجب والاستبعاد عادة وعلى بمعنى مع أي مع مس الكبر بأن يولد لي أي أن الولادة أمر مستنكر عادة مع الكبر وأمر عجيب من بين هرمين وهو حال أي أبشرتموني كبيراً أو بمعنى بعد أي بعدما أصابني الكبر والهرم فبم تبشرون هي ما الاستفهامية دخلها معنى التعجب كأنه قيل فبأي أعجوبة تبشرون.
وفي التفسير الفارسي (س به نوع مده ميدهيد مرا) وهو بفتح النون مع التخفيف ؛ لأنها نون الجماعة وقرىء بكسر النون مع التخفيف لأن أصله تبشروني حذفت الياء وأقيم الكسر مقامها.
قالوا بشرناك بالحق أي بما يكون لا محالة فلا تكن من القانطين من الآيسين من ذلك، فإن الله تعالى قادر على أن يخلق بشراً بغير أبوين، فكيف من شيخ فإن وعجوز عاقر، وكان مقصده عليه السلام استعظام نعمته تعالى عليه في مضمن التعجب العادي المبني على سنة الله المسلوكة
٤٧٤
فيما بين عباده لا استبعاد ذلك بالنسبة إلى قدرته تعالى كما ينبىء عنه قوله تعالى بطريق الحكاية من القانطين دون من الممترين ونحوه.


الصفحة التالية
Icon