وفيه دليل على أن العرش والماء خلقا قبل السموات والأرض، والجمهور على أن أول ما خلق الله من الأجسام هو العرش ومن الأرواح الروح المحمدي الذي يقال له : العقل الأول والفلك الأ على أيضاً.
وفيه دليل أيضاً على إمكان الخلاء فإن الخلاء هو الفراغ الكائن بين الجسمين اللذين لا يتماسان وليس بينهما ما يماسهما، فإذا لم يكن بين العرش والماء حائل يثبت الخلاء، والحكماء ذاهبون إلى امتناع الخلاء والمتكلمون إلى إمكانه.
قال في كتب الهيئة : مقعر سطح الفلك الأعظم يماس محدب فلك الثوابت ومحدبه لا يماس شيئاً إذ ليس وراءه شيء لا خلاء ولا ملاء بل عنده ينقطع امتدادات العالم كلها.
وقيل من ورائه أفلاك من أنوار غير متناهية ولا قائل بالخلاء فيما تحت الفلك الأعظم بل هو الملاء.
وقال المولى أبو السعود رحمه الله : وكان عرشه قبل خلقهما على الماء ليس تحته شيء غيره سواء كان بينهما فرجة أو كان موضوعاً على متنه كما ورد في الأثر فلا دلالة فيه على إمكان الخلاء كيف لا؟ ولو دل لدل على وجوده لا على إمكانه فقط، ولا على كون الماء أول ما حدث في العالم بعد العرش وإنما يدل على أن خلقهما أقدم من خلق السموات والأرض من غير تعرض للنسبة بينهما انتهى.
قال الكاشفي :(در وقوف عرش برآب واستقرار آب برباد اعتبار عظيم است مراهان تفكررا ازعباد) ليبلوكم متعلق بخلق واللام لام العلة عقلاً ولام الحكمة والمصلحة شرعاً بمعنى أن الله تعالى فعل فعلاً لو كان يفعله من يراعي المصالح لم يفعله إلا لتلك المصلحة أي : خلق السموات والأرض وما فيهما من المخلوقات التي من جملتها أنتم ورتب فيهما جميع ما تحتاجون إليه من مبادي وجودكم وأسباب معايشكم وأودع في تضاعيفهما من أعجايب الصنائع والعبر ما تستدلون به على مطالبكم الدينية ليعاملكم معاملة من يبتليكم ويمتحنكم.
أيكم أحسن عملاً فيجازيكم بالثواب والعقاب بعد ما تبين المحسن من المسيء.
فإن قلت : الاختبار يتعلق بجميع العباد محسنين كانوا أو مسيئين وأحسن عملاً يخصصه بالمحسنين منهم لأن العمل الأحسن يخص بالمحسنين ولا يتحقق في أهل القبائح فيلزم أن يعتبر عموم الابتلاء وخصوصه معاً وهما متنافيان.
قلت : الابتلاء وأن
٩٩
كان يعم الفرق المكلفين إلا أن المراد خصوصه بالمحسنين تنبيهاً على أن المقصود الأقصى من خلق المخلوقات أن يتوسلوا بأحسن الأعمال إلى أجل المثوبات، وتحريضاً لهم على ترك القبائح والمنكرات، والمراد بالعمل ما يعم عمل القلب والجوارح، ولذلك فسره عليه السلام بقوله : أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله فإن لكل من القلب والقالب عملاً مخصوصاً به، فكما أن الأول أشرف من الثاني فكذا الحال في عمله فكيف لا ولا عمل بدون معرفة الله تعالى الواجبة على العباد وإنما طريقها النظري التفكر في عجائب صنعه، ولا طاعة بدون فهم الأوامر والنواهي، وقد روى عن النبي عليه السلام أنه قال : لا تفضلوني على يونس بن متى، فأنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض قالوا : وإنما كان ذلك التفكر في أمر الله تعالى الذي هو عمل القلب لأن أحداً لا يقدر على أن يعمل في اليوم بجوارحه مثل عمل أهل الأرض وأما ذات الله تعالى فلا يسعها التفكر.
وفي المثنوى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٩٥
بي تعلق نيست مخلوقي بدو
آن تعلق هست بيون اي عمو
اين تعلق را خرد ون ره برد
بسته فصلست ووصلست اين خرد
زين وصيت كرد مارا مصطفى
بحث كم جوئيد در ذات خدا
آنكه درذاتش تفكر كردنيست
در حقيقت آن نظر در ذات نيست
هست آن ندار او زيرا براه
د هزا ران رده آمد تا له
وفي التأويلات النجمية الابتلاء على قسمين.
قسم للسعداء وهو بلاء حسن وذلك أن السعيد لا يجعل المكونات مطلبه ومقصده الأصلي بل يجعل ذلك حضرة المولى والرفيق الأعلى ويجعل ما سوى المولى بإذن مولاه وأمره ونهيه وسيلة إلى القربات وتحصيل الكمالات فهو أحسن عملاً، وقسم للأشقياء وهو بلاء سيء وذلك أن الشقي يجعل المكونات مطلبه ومقصده الأصلي ويتقيد بشهواتها ولذاتها ولم يتخلص من نار الحرص عليها والحسرة على فواتها ويجعل ما أنعم الله عليه به من الطاعات والعلوم التي هي ذريعة إلى الدرجات والقربات وسيلة إلى نيل مقاصده الفانية واستيفاء شهواته النفسانية فهو أسوء عملاً انتهى.