قال حضرة شيخنا العلامة أبقاه الله بالسلامة : في بعض تحريراته نية الإنسان لا تخلو إما أن يكون متعلقها في لسانه وجنانه هو الدنيا فهو سيء نية وعملاً وإما أن يكون متعلقها في لسانه هو الآخرة وفي جنانه هو الدنيا فهو أسوأ نية وعملاً، وإما أن يكون متعلقها في لسانه وجنانه هو الآخرة فهو حسن نية وعملاً الآخرة فهو حسن نية وعملاً وإما أن يكون متعلقها في لسانه وجنانه هو وجه الله تعالى فهو أحسن نية وعملاً فالأول حال الكفار والثاني حال المنافقين والثالث حال الأبرار والرابع حال المقربين وقد أشار الحق سبحانه إلى أحوال المقربين عبارة وإلى أحوال غيرهم إشارة في قوله تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً}(الكهف : ٧) انتهى باجمال.
قال الحافظ :
صحبت خور نخواهم كه بود عين قصور
باخيال تواكر بادكرى بر دازم
اللهم اجعلنا من الفارين إليك والحاضرين لديك
﴿وَلَـاـاِن﴾ قلت يا محمد لقومك وهم أهل مكة واللام لام التوطئة للقسم إنكم أيها المكلفون مبعوثون من
١٠٠
بعد الموت يعني : يوم القيامة.
ليقولن الذين كفروا منهم وهو جواب القسم وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه إن هذا ما هذا القرآن الناطق بالبعث.
إلا سحر مبين أي : مثله في البطلان فأن السحر لا شك تمويه وتخييل باطل وإذا جعلوه سحراً فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٩٥
﴿وَلَـاـاِنْ﴾ أخرنا عنهم العذاب الموعود إلى أمة معدودة إلى طائفة من الأيام قليلة لأن ما يحصره العد قليل ليقولن أي : الكفار ما يحبسه أي : أيُّ شيء يمنع العذاب من المجيء والنزول فكأنه يريده فيمنعه مانع وإنما كانوا يقولونه بطريق الاستعجال استهزاء ومرادهم إنكار المجيء والحبس رأساً لا الاعتراف به والاستفسار عن حابسه.
ألا (بدانيد) يوم يأتيهم العذاب كيوم بدر ليس مصروفاً عنهم أي : مدفوعاً عنهم، يعني : لا يدفعه عنكم دافع بل هو واقع بكم.
ويوم منصوب بخبر ليس، وهو دليل على جواز تقديم خبر ليس، على ليس، فأنه إذا جاز تقديم معمول خبرها عليها كان ذلك دليلاً على جواز تقديم خبرها إذ المعمول تابع للعامل فلا يقع إلا حيث يقع العامل.
وحاق بهم ونزل بهم وأحاط وهو بمعنى يحيق فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقيق وقوعه ما كانوا به يستهزئون أي : العذاب الذي كانوا يستعجلون به استهزاء.
واعلم أن السبب الموجب للعذاب كان الاستهزاء، والباعث على الاستهزاء كان الانكار والتكذيب، والناس صنفان في طريق الآخرة صنف مبتاع نفسه من عذاب الله تعالى بالإيمان والأعمال الصالحة، وصنف مهلكها باتباع الهوى وترك الأعمال الصالحة والكفار أمنوا من عذاب الله تعالى وسخطه فوقعوا فيما وقعوا من العذاب العاجل والآجل وفي الحديث القدسي : وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين إذا خافني في الدنيا آمنته يوم القيامة وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة ولشدة الأمر قال الفضيل بن عياض : إني لا أغبط ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ولا عبداً صالحاً أليس هؤلاء يعاينون القيامة وأهوالها وإنما أغبط من لم يخلق لأنه لا يرى أحوال القيام وشدائدها.
وعن السرى السقطي : اشتهي أن أموت ببلدة غير بغداد مخافة أن لا يقبلني قبري فأفتضح عندهم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٠١
فعلى العاقل أن يتدارك أمره قبل حلول الأجل كما قيل :(علاج واقعه يش از وقوع بايدكرد) ويخاف من ربه ويستغفر من ذنبه ويحترز عن الإصرار وفي الحديث : المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزىء بربه والله تعالى يريد من كل جزء من أجزاء الإنسان ما خلقه له فمن القلب المعرفة والتوحيد، ومن اللسان الشهادة والتلاوة وترك الأذية بالاستهزاء وغيره فمن ترك الوفاء بما تعهد له من استعمال كل عضو فيما خلق هو لأجله فقد تعرض لسخط الله تعالى وعذابه وقد استهزأ أبو جهل بالنبي عليه السلام في بعض الأوقات حيث سار خلفه عليه السلام فجعل يخلج أنفه وفمه يسخر به فاطلع عليه فقال له : كن كذلك فكان كذلك إلى أن مات لعنه الله واستهزأ به عليه السلام عتبة بن أبي معيط فبصق في وجههه فعاد بصاقه على وجهه وصار برصاً ومر عليه السلام بجماعة من كفار أهل مكة فجعلوا يغمزون في قفاه، ويقولون هذا يزعم أنه نبي وكان معه عليه السلام جبريل فغمز جبريل بأصبعه في أجسادهم فصاروا جروحاً
١٠١


الصفحة التالية
Icon