وقال في الإرشاد : للدلالة على الاستمرار يريد بما عمله من أعمال البر والإحسان الحيوة الدنيا وزينتها أي : ما يزينها ويحسنها من الصحة والأمن
١٠٧
والسعة في الرزق وكثرة الأولاد والرياسة وغير ذلك لا وجه الله تعالى، والمراد بالإرادة ما يحصل عند مباشرة الأعمال لا مجرد الإرادة القلبية لقوله تعالى : نوف إليهم أعمالهم فيها أي : نوصل إليهم ثمرات أعمالهم في الحياة الدنيا كاملة وليس المراد بأعمالهم أعمال كلهم، فأنه لا يجد كل متمن ما تمناه فأن ذلك منوط بالمشيئة الإلهية كما قال تعالى : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد}(الإسراء : ١٨) ولا كل أعمالهم بل بعضها الذي يترتب عليه الأجر والجزاء ﴿وَهُمْ فِيهَا﴾ أي : في الحياة الدنيا لا يبخسون لا ينقصون شيئاً من أجورهم.
أولئك المريدون للحياة الدنيا وزينتها الموفون فيها ثمرات أعمالهم من غير بخس.
الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار لأن هممهم كانت مصروفة إلى الدنيا وأعمالهم مقصورة على تحصيلها فقد اجتنبوا ثمراتها فلم يبق في الآخرة إلا العذاب المخلد.
وحبط ما صنعوا فيها يعني : بطل ثواب أعمالهم التي صنعوها في الدنيا لأنها لم تكن لوجه الله تعالى والعمدة في اقتضاء ثواب الآخرة هو الإخلاص وباطل (ونايزاست) في نفس الأمر ما كانوا يعملون رياء وسمعة، فقوله : باطل خبر مقدم وما كانوا يعملون مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية معطوفة على الفعلية قبلها.
والآية في حق الكفار كما يفصح عنه الحصر في كينونة النار لهم.
واعلم : أن حسنات الكفار من البر وصلة الرحم والصدقة وبناء القناطر وتسوية الطرق والسعي في دفع الشرور وأجراء الأنهار ونحو ذلك مقبولة بعد إسلامهم يعني : يحسب ثوابها ولا يضيع.
وأما قبل الإسلام فانعقد الإجماع على أنهم لا يثابون على أعمالهم بنعيم ولا تخفيف عذاب لكن يكون بعضهم أشد عذاباً من بعض بحسب جرائمهم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٠٧
وذكر الامام الفقيه أبو بكر البيهقي أنه يجوز أن يراد بما في الآيات والأخبار من بطلان خيرات الكفار أنهم لا يتخلصون بها من النار ولكن يخفف عنهم ما يستوجبونه بجنايات ارتكبوها سوى الكفر ووافقه المازري كما في شرح المشارق لابن الملك.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في أهل الرياء من أهل القبلة فمعنى قوله تعالى : ليس لهم في الآخرة إلا النار ليس يليق لهم إلا النار ولا يستحقون بسبب الأعمال الريائية إلا إياها، كقوله تعالى : فجزاؤهم جهنم وجائز أن يتغمدهم الله برحمته فليس في الآية دلالة على الخلود والعذاب البتة، والظاهر أن الآية عامة لأهل الرياء مؤمناً كان أو كافراً أو منافقاً كما في زاد المسير والرياء مشتق من الرؤية وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس برؤيتهم خصال الخير كما في فتح القريب.
وفي الحديث : أن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال : الرياء يقول الله عز وجل إذا جزى الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟.
مرايي هر كسى معبود سازد
مرايى را ازان كفتند مشرك
قال في شرح الترغيب المشرك يطلق على كل كافر من عابد وثن وصنم ومجوسي ويهودي ونصراني ومرتد وزنديق وعلى المرائي وهو الشرك الأصغر والشرك الخفي يقال : للقراء من أهل الرياء أردت أن يقال : فلان قارىء فقد قيل ذلك ولمن وصل الرحم وتصدق فعلت حتى يقال : فقيل ولمن قاتل فقتل قاتلت حتى يقال : فلان جريىء فقد قيل ذلك فهؤلاء الثلاثة أول خلق تسعر بهم
١٠٨
النار كما في الحديث : ويصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء السابعة من صلاة وصوم ونفقة واجتهاد وورع فيقول لهم الملك الموكل بها اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه فأنه أراد بعمله غير الله تعالى ويصعد الحفظة بعمله من صلاة وزكاة وصوم وحج وعمرة وخلق حسن وصمت وذكر الله ويشيعه ملائكة السموات حتى يقطعون الحجب كلها فيقول لهم الله تعالى أراد به غيري فعليه لعنتي فيقول الملائكة كلها عليه لعنتك ولعنتنا ويلعنه السموات السبع ومن فيهن كما ورد في الحديث قال الحافظ :
كوييا باورنمى دارند روزداورى
كين همه قلب ودغل دركار داور ميكنند
قال الفضيل : ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك والإخلاص الخلاص من هذين، معنى كلامه أن من عزم على عبادة الله تعالى ثم تركها مخافة أن يطلع الناس عليه فهو مراىء لأنه لو كان عملهتعالى لم يضره اطلاع الناس عليه ومن عمل لأجل أن يراه الناس فقد أشرك في الطاعة ويستثنى من كلامه مسألة لا يكون ترك العمل فيها لأجل الناس رياء وهي إذا كان الشخص يعلم أنه متى فعل الطاعة بحضرة الناس آذوه واغتابوه فأن الترك من أجلهم لا يكون رياء بل شفقة عليه ورحمة كما في فتح القريب.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٠٧