وقال المولى أبو السعود في الإرشاد : ما حاصله أن المراد بالبينة البرهان الدال على حقية الإسلام وهو القرآن والكون على بينة من الله عبارة عن التمسك بها ويتلوه، أي : يتبعه شاهد من القرآن شهيد بكونه من عند الله وهو إعجازه وما وقع فيه من الأخبار بالغيب أو شاهد من الله تعالى كالمعجزات الظاهرة على يديه عليه السلام، ولما كان المراد بتلو الشاهد للبرهان إقامة الشهادة بصحته وكونه من عند الله تعالى تابعاً له بحيث لا يفارقه في مشهد من المشاهد، فإن القرآن بينة باقية على وجه الدهر مع شاهدها
١١٠
الذي يشهد بأمرها إلى يوم القيامة عند كل مؤمن وجاحد.
عطف كتاب موسى في قوله تعالى : ومن قبله كتاب موسى على فاعله مع كونه مقدماً عليه في النزول فكأنه قيل أفمن كان على بينة من ربه ويشهد به شاهد آخر من قبل هو كتاب موسى.
وقال في التأويلات النجمية : وحمل الآية في الظاهر على النبي وأبي بكر أولى وأحرى فإنه عليه السلام كما كان على بينة من ربه، كان أبو بكر شاهداً يتلوه بالإيمان والتصديق يدل عليه قوله : والذي جاء بالصدق}(الزمر : ٣٣) يعني : النبي عليه السلام وصدق به يعني : أبا بكر رضي الله عنه وهو الذي كان ثانيه في الغار وتاليه في الإمامة في مرضه عليه السلام حين قال :"مروا أبا بكر فليصل بالناس" وكان تاليه بالخلافة بإجماع الصحابة وكان منه حيث قال صلى الله عليه وسلّم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما :"إنهما مني بمنزلة السمع والبصر".
﴿وَمِن قَبْلِهِ﴾ أي : من قبل أبي بكر وشهادته بالنبوة كان كتاب موسى وهو التوراة إماماً يأتم به قومه بعده، وفي أيام محمد كما ائتم به عبد الله بن سلام وسلمان وغيرهما من أحبار اليهود ؛ ولأنه كان فيه ذكر النبي بالنبوة والرسالة.
ورحمة أي : الكتاب كان رحمة لأهل الرحمة وهي الذين يؤمنون بالكتاب وبما فيه كما قال : أولئك يؤمنون به يعني : أهل الرحمة ومن يكفر به أي : بالكتاب وبما فيه من الأحزاب أي : حزب أهل الكتاب وحزب الكفار وحزب المنافقين وأن زعموا أنهم مسلمون لأن ؛ الإسلام بدعوى اللسان فحسب، وإنما يحتاج مع دعوى اللسان إلى صدق الجنان وعمل الأركان.
فلاتك في مرية منه أي : من أن يكون الكافر بك وبما جئت به من أهل النار، لأن الإيمان بك إيمان بي وأن طاعتك طاعتي فلا يخطرن ببالك إأني من سعة رحمتي لعلي أرحم من كفر بك كائناً من كان ؛ فإني لا أرحمهم لأنهم مظاهر قهري.
إنه الحق من ربك أي : يكون له مظاهر صفات القهر كما يكون له مظاهر صفات اللطف.
ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بصفات قهره كما يؤمنون بصفات لطفه لرجائهم المذموم ولغرورهم المشئوم بكرم الله فإنه غرهم بالله وكرمه الشيطان الغرور انتهى.
قال الحافظ :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١١٠
در كار خانه عشق از كفرنا كزيرست
آتش كرابسوز دكر بو لهب نباشد
واعلم أن حضرة القرآن إنما نزل لتمييز أهل اللطف وأهل القهر فهو البرهان النير العظيم الشان، وبه يعلم أهل الطاعة من أهل العصيان، ولما كان الكلام صفة من الصفات القديمة له تعالى قال أهل التأويل في إشارة قوله : أفمن كان على بينة من ربه أي : كشف بيان من تجلى صفة من صفات ربه.
ويتلوه شاهد منه أي : ويتبع الكشف شاهد من شواهد الحق فإن الكشف يكون مع الشهود ويكون بلا شهود.
والمعنى أفمن كان على بينة من كشوف الحق وشواهده كمن كان على بينة من العقل والنقل مع احتمال السهو والغلط فيها ولذا.
قال الحافظ :
عشق ميورزم واميدكه اين فن شريف
ون هنرهاى دكر موجب حرمان نوشد
وقال الصائب :
طريق عقل را بر عشق رجحان مى دهد زاهد
عصايى بهتر ازصد شمع كافورست اعمى را
وقال :
جمعى كه شت كرم بعشق ازل نيند
نازسمور ومنت سنجاب ميكشند
١١١
جعلنا الله وإياكم من المستبصرين لشواهد الحق وأوصلنا وإياكم إلى شهود النور المطلق وحشرنا وإياكم تحت لواء الفريق الأسبق.


الصفحة التالية
Icon