هو ربكم خالقكم والمتصرف فيكم وفق إرادته وإليه ترجعون فيجازيكم على أعمالكم لا محالة.
أم يقولون قوم نوح افتريه الضمير المستتر المرفوع لنوح عليه السلام والبارز للوحي الذي بلغه إليهم.
قل يا نوح إن افتريته بالفرض البحت فهو لا يدل على أنه كان شاكاً بل هو قول يقال : على وجه الإنكار عند اليأس من القبول فعليّ إجرامي أي : وبال إجرامي وهو كسب الذنب فالمضاف محذوف، وإن كنت صادقاً فكذبتموني فعليكم عقاب ذلك التكذيب فحذف لدلالة قوله تعالى : وأنا برىء مما تجرمون عليه، أي : من إجرامكم في إسناد الافتراء إليّ فلا وجه لإعراضكم عني ومعاداتكم لي.
وفيه إشارة إلى أن ذنوب النفس لا تنافي صفاء الروح ولا يتكدر الروح بها ما دام متبرئاً منها لكن كل من القوى يتكدر بما قارفه من ذنوب نفسه، فالجهل يكدر الروح والميل إلى ما سوى الله تعالى يكدر القلب، والهوى يكدر النفس والشهوة تكدر الطبيعة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٢٠
فعلى العاقل تجلية هذه المرائي وتصقيلها له تعالى والتوجه إلى الحضرة العلياء والعمل على وفق الهدى وترك المشتهيات.
قال حضرة شيخنا العلامة أبقاه الله بالسلامة : الإنسان، أما حيواني وهم الذين غلب عليهم أوصاف الطبيعة وأحوال الشهوة، وأما شيطاني وهم الذين غلب عليهم أوصاف النفس وأحوال الشيطنة، وأما ملكي وهم الذين غلب عليهم أوصاف الروح وأحوال الملكية، وإما صاحب الجانبين وهم الذين استوى واشترك فيهم وصف الطبيعة والنفس ووصف الملكية والروح.
وإما رحماني وهم الذين غلب عليهم وصف السر وحاله ثم الثلاثة الأول من يخرج منهم بالإيمان من النيا فهم يدخلون الجنة بالفضل أو بعد إقامة العدل وهم أصحاب اليمين وأرباب الجمال، ومن يخرج من الدنيا بلا إيمان فيدخلون الجحيم بالعدل وهم أصحاب الشمال وأرباب الجلال، والرابع : من يخرج منهم بالإيمان فهم أهل الأعراف والخامس : هم أرباب الكمال السابقون المقربون وما منا إلاله مقام معلوم ورزق مقسوم، ثم الحيوانيون بعدما خرجوا من الدنيا يحشرون مع الشياطين والملكيون يحشرون مع الملائكة وأصحاب الجانبين يحشرون بين الطرفين والرحمانيون يحشرون مع قرب الرحمن قال عليه السلام : تموتون كما تعيشون وتحشرون كما تموتون انتهى كلامه.
قال يحيى بن معاذ الرازي : الناس ثلاثة أصناف، رجل شغله معاده عن معاشه.
ورجل شغله معاشه عن معاده، ورجل مشتغل بهما جميعاً فالأول : درجة الفائزين، والثاني : درجة الهالكين، والثالث : درجة المخاطرين وفي الحديث : إنخواص يسكنهم الرفيع من الجنان كانوا أعقل الناس قالوا يا رسول الله : كيف كانوا أعقل الناس؟ قال : كانت همتهم المسابقة إلى ربهم والمسارعة إلى ما يرضيه، وزهدوا في الدنيا وفي رياستها، وفي فضولها ونعيمها فهانت عليهم فصبروا قليلاً، واستراحوا طويلاً.
تاكى م دنياي دنى اي دل دانا
حيفست زخوبى كه شود عاشق زشتى
١٢١
وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك أي : المصرين على الكفر، وهو إقناط له عليه السلام من إيمانهم وإعلام لكونه كالمحال الذي لا يصح توقعه إلا من قد آمن.
وقال المولى أبو السعود رحمه الله : هذا الاستثناء على طريقة قوله تعالى : إلا ما قد سلف}(النساء : ٢٢) وقد سبق في أواخر سورة النساء.
وقال سعدي المفتي : إن قيل من قد آمن لا يحدث الإيمان بل يستمر عليه فكيف صح اتصال الاستثناء؟ قلنا قد تقرر أن لدوام الأمور المستمرة حكم الابتداء ولهذا لو حلف لا ألبس هذا الثوب وهو لابسه فلم ينزعه في الحال يحنث ومبنى الأيمان على العرف.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٢٠
وقال القطب العلامة :﴿إِلا مَن قَدْ ءَامَنَ﴾ قد استعد للإيمان وتوقع منه ولا يراد الإيمان بالفعل وإلا لكان التقدير إلا من قد آمن فإنه يؤمن.
فلا تبتئس بما كانوا يفعلون هو تفتعل من البؤس ومعناه الحزن في استكانة وهي الخضوع، أي : لا تحزن حزن بائس مستكين، ولا تغتم بما كانوا يتعاطون من التكذيب والإيذاء في هذه المدة الطويلة فقد انتهى أفعالهم وحان وقت الانتقام منهم، وعن النبي إنه قال : إن نوحاً كان إذا جادل قومه ضربوه حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون انتهى.
ولما جاء هذا الوحي من عند الله تعالى دعا عليهم فقال : رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً}(نوح : ٢٦).
وفي "المثنوى" :
نا حمولى انبيارا از امر دان
ورنه حمالست بدرا حلمشان
طبع را كشتند اندر حمل بد
نا حمولى كر كند از حق بود
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : أول ما يتخلق المتخلق بعدم التأذي بأذى الأنام باحتماله صبراً، وواسطته أن لا يجدهم مؤذين لأنه موحد فيستوى عنده المسيء والمحسن في حقه، وخاتمته أن يرى المسيء محسناً إليه فإنه عالم بالحقائق متحقق بالتجلي الإلهي وهي بداية التحقيق.


الصفحة التالية
Icon