ستمائة ذراع كما قيل إن الحواريين قالوا لعيسى عليه السلام : لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة يحدثنا عنها فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفا من ذلك التراب فقال : أتدرون من هذا قالوا : الله ورسوله أعلم قال : هذا كعب بن حام فضرب بعصاه وقال : قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه وقد شاب فقال له عيسى : أهكذا هلكت قال : لا مت وأنا شاب ولكني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت فقال : حدثنا عن سفينة نوح قال : كان طولها ألفاً ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وكانت ثلاث طبقات طبقة للدواب والوحش وطبقة للإنس وطبقة للطير ثم قال : عد بإذن الله تعالى كما كنت فعاد تراباً.
قال في الكواشي : وطلاها بالقار فلما أتمها أنطقها الله فقالت : لا إله إلا الله في الأولين والآخرين، أنا السفينة التي من ركبني نجا ومن تخلف عني هلك ولا يدخلني إلا أهل الإيمان والإخلاص فقال قومه : يا نوح هذا قليل من سحرك.
ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي : لا تراجعني فيهم ولا تدعني في استدفاع العذاب عنهم، وفي وضع المظهر موضع المضمر تسجيل عليهم بالظلم ودلالة على أنه إنما نهى عن الدعاء لهم بالنجاة لتصميمهم على الظلم وأن العذاب إنما لحقهم لذلك إنهم مغرقون محكوم عليهم بالإغراق قد مضى به القضاء وجف القلم فلا سبيل إلى كفه ولزمتهم الحجة فلم يبق إلا أن يجعلوا عبرة للمعتبرين ومثلاً للآخرين.
ويقال : للذين ظلموا يعني : ابنه كنعان كما في تفسير أبي الليث وزاد في التبيان امرأته والعة أو واعلة بالعين المهملة وهي أم كنعان.
يقول الفقير لعله هو الأصوب لأنه روى أن الأرض صاحت وقال : يا رب ما أحلمك على هؤلاء الكفرة يمشون على ظهري ويأكلون رزقك ويعبدون غيرك ثم نطقت السباع كذلك، فلما اشتد الأمر وعلم نوح أنه لا يؤمن من قومه أحد بعد دعا عليهم بالهلاك، فكيف يخاطب الله فيهم وفي نجاتهم.
وأما كنعان وأمه فهما وإن كانا كافرين لكن لا يسوي بينهما وبينهم من حيث إن الشفقة على الأهل والأولاد أشد وكان من شأنه المخاطبة في حقهم ولذلك نهي عنها وسيجيء زيادة البيان في ذلك.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٢٣
قال في التأويلات النجمية : ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي : النفوس فإن الظلم من شيمتها إنه كان ظلوماً جهولاً ؛ لأنها تضع الأشياء في غير موضعها تضع عبادة الحق في هواها والدنيا وشهواتها، وفي هذا الخطاب حسم مادة الطمع عن إيمان النفوس، وفيه حِكَم يطول شرحها منها ترقى أهل الكمالات إلى الأبد فافهم جداً، وإن النفس مكمن مكر الحق حتى لا تأمن منها ومن صفاتها إنهم مغرقون في طوفان الفتن إلا من سلمة الله منه والسلامه في ركوب سفينة الشريعة، فإن نوح الروح إن لم يركبها كان من المغرقين انتهى.
وفي الحديث : مثلي ومثل أمتي كمثل سفينة نوح من تمسك بها نجا ومن تخلف عنها غرق وفي المثنوى :
بهر اين فرمود يغمبر كه من
همو كشتى ام بطوفان زمن
ما وأصحابيم ون كشتىء نوح
هركه دست اندر زند يابد فتوح
ونكه باشيخى تودور از زشتى
روز وشب سيارى ودركشتى
مكسل از يغمبر ايام خويش
تكيه كم كن برفن وبركام خويش
كره شيرى ون روى ره بى دليل
خويش روبه در ضلالي وذليل
١٢٤
ويصنع الفلك ينجرها، وهي حكاية حال ماضية لاستحضار صورتها العجيبة، وكلما أي : يصنعها والحال أنه كلما مر عليه ملأ أشراف ورؤساء من قومه سخروا منه استهزؤا به لعمله السفينة إما لأنهم ما كانوا يعرفونها ولا كيفية استعمالها والانتفاع بها فقالوا : يا نوح ما تصنع؟ قال : اصنع بيتاً يمشي على الماء فتعجبوا من قوله وسخروا منه، وإما لأنه كان يصنعها في برية بهماء في أبعد موضع من الماء في وقت عزته عزة شديدة وكانوا يتضاحكون ويقولون : يا نوح صرت نجاراً بعد ما كنت نبياً ويقولون أتجعل للماء إكافاً فأين الماء؟ أو لأنه كان ينذرهم الغرق فلما طال مكثه فيهم ولم يشاهدوا منه عيناً ولا أثراً عدوه من باب المحال، ثم لما رأوا اشتغاله بأسباب الخلاص من ذلك فعلوا ما فعلوا ومدار الجميع إنكار أن يكون لعمله عاقبة حميدة مع ما فيه من تحمل المشاق العظيمة.
من اكرنيكم وبدتو برو وخودرا باش
هر كسى آن درود عاقبت كاركه كشت
قوله كلما ظرف وما مصدرية ظرفية تقديره وكل وقت مرور سخروا منه والعامل سخروا منه قال استئناف كأن سائلاً سأل، فقال : فما صنع نوح عند بلوغ أذاهم الغاية فقيل : قال : إن تسخروا منا (اكر سخريه وافسوس ميكنيد باما) فإنا نسخر منكم كما تسخرون سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة.
قال المولى أبو السعود رحمه الله : أي : نعاملكم معاملة من يفعل ذلك ؛ لأن نفس السخرية مما لا يكاد يليق بمنصب النبوة انتهى.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٢٣