يقول الفقير : المقصود من هذه السخرية إصابة جزاء السخرية، وكل أحد إنما يجازي من جنس عمله لا من خلاف جنسه ألا ترى إلى قوله تعالى في حق الصائمين، كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية}(الحاقة : ٢٤) فإنه يقال : لهم يوم القيامة كلوا يا من جوعوا بطونهم واشربوا يا من عطشوا أكبادهم، ولا يقال : كلوا يا من قطعوا الليل واشربوا يا من ثبتوا يوم الزحف، إذ ليس فيه المناسبة بين العمل وجزائه فالآية نظير قوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ (المطففين : ٢٩) ألا ترى إلى ما قال في "الجزاء" :﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾ (المطففين : ٣٦) ثم تمم بقوله :﴿هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾.
وفي الآية إشارة إلى أن أهل النفس وتابعي هواها يستهزئون بمن يستعمل أركان الشريعة الظاهرة ويضحكون منهم في إتعابهم بها نفوسهم إذ هم بمعزل عن أسرارها وأنوارها فإن سخروا منهم بجهلهم لفائدة هذه السفينة فسوف يسخر بهم من ركبها إذ نجوا وهلكوا.
قال شيخنا العلامة أبقاه الله بالسلامة : فكما أن العالم الغير العامل والجاهل الغير العامل سواء في كونهما مطروحين عن باب الله تعالى فكذلك العارف الغير العامل والغافل الغير العامل سواء في كونهما مردودين عن باب الله تعالى، لأن مجرد العلم والمعرفة ليس بسبب القبول والفلاح ما لم يقارن العمل بالكتاب والسنة بل كون مجردهما سبب الفلاح مذهب الحكماء الغير الإسلامية فلا بد معهما من العمل حتى يكونا سبباً للنجاة كما هو مذهب أهل السنة والحكماء الإسلامية انتهى كلامه المقبول المفيد :
كارى كنيم ورنه حجالت بر آود
روزى كه رخت جان بجهان دكر كثيم
قال السعدي قدس سره :
١٢٥
كنون كوش كآب از كمر در كذشت
در وقت سيلابت از سر كذشت
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٢٣
﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ من عبارة عنهم وهي إما استفهامية في حيز الرفع، أو موصولة في محل النصب بتعلمون، وما في حزيها ساد مسد المفعولين.
قال سعدي المفتي من موصولة ويعدى تعلمون إلى واحد استعمالاً لها استعمال عرف في التعدية إلى واحد يأتيه عذاب وهو عذاب الغرق، يخزيه يهينه ويذله وصف العذاب بالاخزاء، لما في الاستهزاء والسخرية من لحوق الخزى والعار عادة.
ويحل عليه حلول الدين الذي لا انفكاك عنه، ففي الكلام استعارة مكنية حيث شبه العذاب الأخروي الذي قضى الله تعالى به في حقهم بالدَّين المؤجل الواجب الحلول، وأثبت له الحلول الذي هو من لوازمه عذاب مقيم دائم هو عذاب النار.
حتى إذا جاء أمرنا للتنور بالفوران أو للحساب بالإرسال وحتى هي التي يبتدأ بها الكلام دخلت على الجملة الشرطية وهي مع ذلك غاية لقوله ويصنع فإن كونها حرف ابتداء لا ينافي كون ما بعدها غاية لما قبلها.
والمعنى وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الطوفان وفار التنور (وبجوشيد آب ازتنور) والتنور اسم أعجمي عربته العرب لأن أصل بنائه تنر وليس في كلام العرب نون قبل راء ذكره القرطبي أي : نبع منه الماء وارتفع بشدة كما يفور القدر بغليانها، والتنور : تنور الخبز لأهله وهو قول الجمهور روى أنه قيل لنوح إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب ومن معك في السفينة، فلما نبع الماء أخبرته امرأته فركب، وقيل : كان تنور آدم وكان من حجارة فصار إلى نوح وإنما نبع منه وهو أبعد شيء من الماء على خرق العادة، واختلفوا في مكان التنور أيضاً فقيل كان في الكوفة في موضع مسجدها عن يمين الداخل مما يلي باب الكنيسة ؛ وكان عمل السفينة في ذلك الموضع، وفي القاموس : الغارقون مسجد الكوفة لأن الغرق كان فيه، وفي زاوية له فار التنور، وقيل : في الهند، وقيل : في موضع بالشام يقال له : عين وردة وقيل : التنور وجه الأرض أو أشرف موضع في الأرض، أي : أعلاه وعن علي رضي الله عنه فار التنور طلع الفجر قلنا جواب إذا وإن جعلت حتى جارة متعلقة بيصنع فإذا ليست بشرطية، بل مجرورة بحتى وقلنا استئناف.
احمل فيها الضمير راجع إلى الفلك والتأنيث باعتبار السفينة من كل أي : من كل نوع من الحيوانات لا بدّ منه في الأرض زوجين اثنين}(النحل : ٥١) مفعول احمل واثنين صفة مؤكدة له وزيادة بيان كقوله تعالى :﴿لا تَتَّخِذُوا إِلَـاهَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ والزوجان عبارة عن كل اثنين لا يستغنى أحدهما عن الآخر، ويقال : لكل واحد منهما زوج يقال : وزوج خف وزج نعل.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٢٦