قيل القائل هو الله تعالى يا نوح اهبط هبط لازم ومتعد إلا أن مصدر اللازم الهبوط ومصدر المتعدي الهبط كالرجوع والرجع والمراد هنا الأول والهبوط بالفارسية (فرود آمدن) أي : انزل من الفلك إلى جبل الجودي الذي استقرت السفينة عليه شهراً أو من الجودي إلى الأرض المستوية.
بسلام ملتبساً بسلامة من المكاره كائنة منا فسلام بمعنى السلامة حال من فاعل اهبط، ومنا صفة له دالة على تعظيمه وكماله، لأن ما كان من الله العظيم عظيم، أو بسلام وتحية منا عليك كما قال : سلام على نوح في العالمين}(الصافات : ٧٩) فالسلام بمعنى التسليم، والأول أوجه، لأن المقام مقام النجاة من الغرق.
﴿وَبَرَكَـاتٍ عَلَيْكَ﴾ أي : خيرات نامية في نسلك وما يقوم به معاشك ومعاشهم من أنواع الأرزاق.
وعلى أمم ناشئة ممن معك متشعبة منهم فمن ابتدائية، والمراد الأمم المؤمنة المتناسلة ممن معه من أولاده إلى يوم القيامة فهو من إطلاق العام وإرادة الخاص هذا على رواية من قال : كان معه في السفينة أولاده وغيرهم مع الاختلاف في العدد فمات غير الأولاد، أي : بعد الهبوط ولم ينسل وهو الأرجح، وإما على رواية من قال : ما كان معه في السفينة ألا أولاده ونساؤهم على أن يكون المجموع ثمانية فلا يحتاج إلى التأويل، وأياً ما كان فنوح أبو الخلق كلهم، ولذا سمي آدم الثاني، وآدم الأصغر، لأنه لم يحصل النسل إلا من ذريته، وقد أخرج الله الكثير من القليل بقدرته كما أخرج من صلب زين العابدين الكثير الطيب وذلك إنه قتل مع سلطان الشهداء الحسين رضي الله عنه عامة أهل بيته ولم ينج إلا ابنه زين العابدين على أنه رضي الله عنه أصغرهم فانمى الله تعالى ذريته السادة.
قال في نفائس المجالس : لما ارتفع الطوفان قسم نوح الأرض بين أولاده الثلاثة، فأما سام فأعطاه بلاد الحجاز واليمن والشام فهو أبو العرب، وأما حام فأعطاه بلاد السودان فهو أبو السودان، وأما يافث فأعطاه بلاد المشرق فهو أبو الترك.
قال في أسئلة الحكم : أما ممالك الأقاليم السبعة التي ضبط عددها في زمن المأمون فثلاثمائة وثلاث وأربعون مملكة، منها ثلاثة أيام وهي أضيقها، وثلاثة أشهر وهي أوسعها ووجدت مملكة في خط الاستواء لها ربيعان وصيفان وخريفان وشتاآن في سنة واحدة وفي بعضها ستة أشهر ليل وستة أشهر نهار وبعضها حر وبعضها برد، وأما جميع مدائن الأقاليم فهو أربعة آلاف مدينة وخمسمائة وست وخمسون وقيل غير ذلك وما العمران في الخراب إلا كخردلة في كف أحدكم وفي الخبر : إندابة في مرج من مروجه رزقها كل يوم بقدر رزق العالم باسره فانظر إلى سعة رحمة الله وبركاته ولا تغتم لأجل الرزق.
وفي المثنوى :
١٤١
جمله را رزاق روزى ميدهد
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٣٩
قسمت هركس كه يشش مينهد
سالها خوردى وكم نامد زخور
ترك مستقبل كن وماضي نكر
وأمم مبتدأ سنمتعهم صفة والخبر محذوف وهو منهم، أي : ليس جميع من تشعب منهم مسلماً ومباركاً عليهم، بل منهم أمم سنمتعهم في الدنيا معناه بالفارسية (زود باشدكه برخوردارى دهيم ايشانرا دردنيا بفراخى عيش وسعت رزق) ثم يمسهم منا (س برسد ايشانرا ازما) عذاب أليم (عذابي دردناك) إما في الآخرة أو في الدنيا أيضاً وهم الكفار وأهل الشقاوة، يشير سبحانه وتعالى إلى أن كون كل الناس سعداء أو أشقياء مخالف لحكمته فإنه أودع فيهم جماله وجلاله على مقتضى تدبيره فلا بد من ظهور آثار كل منهما، كما قال الحافظ :
در كار خانه عشق ازكفرنا كزيرست
آتش كرا بسوزد كر بولهب نباشد
حكى في التفاسير أنه لما رست السفينة على الجودي كشف نوح الطبق الذي فيه الطير فبعث الغراب لينظر هل غرقت البلاد كما في حياة الحيوان أو كم بقى من الماء فيأتيه بخبر الأرض كما في تفسير أبي الليث فابصر جيفة فوقع عليها واشتغل بها فلم يرجع ولذا قالوا : في المثل أبطأ من غراب نوح، ثم أرسل الحمامة فلم تجد موضعاً في الأرض فجاءت بورق الزيتون في منقارها فعرف نوح أن الماء قد نقص وظهرت الأشجار ثم أرسلها فوقعت على الأرض فغابت رجلاها في الطين قدر حمرتهما فجاءت إلى نوح وأرته فعرف إن الأرض قد ظهرت فبارك على الحمامة وطوقها الخضرة التي في عنقها ودعا لها بالأمان فمن ثم تألف البيوت، ودعا على الغراب بالخوف فلذلك لا يألف البيوت وتشاءم العرب بالغراب واستخرجوا من اسمه الغربة قالوا : غراب البين لأنه بان عن نوح.
واعلم أن نوحاً عليه السلام هبط بمن معه في السفينة يوم عاشوراء فصام وأمر من معه بصيامه شكراً الله تعالى وكان قد فرغت أزدواهم فجاء هذا بكف حنطة وهذا بكف عدس وهذا بكف حمص إلى أن بلغت سبعة حبوب فطبخها نوح عليه السلام لهم فافطروا عليها وشبعوا جميعاً ببركات نوح، وكان أول طعام طبخ على وجه الأرض بعد الطوفان هذا فاتخذه الناس سنة يوم عاشوراء وفيه أجر عظيم لمن يفعل ذلك ويطعم الفقراء والمساكين.