يقول الفقير : هذا إذا صبر ولم يظفر ببغيته في الدنيا مع أن من الظفر والنصر الموت على ما قال بعض العلماء : في قوله تعالى : إلا إن نصر الله قريب}(البقرة : ٢١٤) فإن الميت أما مستريح أو مستراح منه ولكن غالب العادة الإلهية إنزال النصر للعاجز ولقد شاهدت في عصري كثيراً من مواد هذا الباب.
منها : أني كنت في الأسكوب من الديار الرومية أنهى عن المنكر فلقيني من القوم في مدة ست سنين ما يضيق نطاق البيان عنه حتى آل الأمر إلى الهجرة من تلك البلدة فأخرجوني من بينهم، فانقلب الابتلاء إلى مقاساة شدائد الهجرة مع الأهل والأولاد، حتى إذا دخلت مدينة بروسة بإشارة حضرة الشيخ قدس سره ووجدت فيها الراحة العظمى استولى الكفار على البلاد الرومية وأحرقوا الأسكوب، وجعل الله من فيها من المستكبرين كأن لم يكن شيئاً مذكوراً.
ومنها : أن إبراهيم الوزير في أواخر دولة السلطان محمد الرابع نفى حضرة شيخنا الأجل الذي جعله الله آية من آيات هذه الدورة القمرية إلى بلدة المعروفة بشمني، وكان حين النفي متمكناً في القسطنطينية فلم يلبث حتى نفاه الله أي : الوزير ثم قتل، ثم لما آلت الوزارة إلى مصطفى المعروف بابن كور يلي في دولة السلطان سليمان الثاني أخرج حضرة الشيخ أيضاً لغرض فاسد إلى جزيرة قبرس فما مضى سنة إلا قتل الوزير وجعل عبرة للمعتبرين ومثلاً للآخرين، وكنت أتحزن في أمر حضرة الشيخ حين كان في الجزيرة المذكورة، فبينما أنا في تفكره يوماً، إذ ورد لي كتاب من جنابه مندرج فيه قوله تعالى :﴿وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِّن نَّهَارا بَلَـاغٌا فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَـاسِقُونَ﴾ (الأحقاف : ٣٥) فصادف قتل الوزير وهو من كراماته العجيبة حفظه الله سبحانه ومتعنا بعلومه الإلهية ووارادته الربانية.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٤٤
﴿وَإِلَى عَادٍ﴾ قبيلة من
١٤٥
العرب بناحية اليمن فهو متعلق بمضمر معطوف على قوله تعالى أرسلنا في قصة نوح وهو الناصب لقوله : أخاهم وتقديم المجرور على المنصوب ههنا للحذار من الاضمار قبل الذكر.
والمعنى وأرسلنا إلى عاد أخاهم أي : واحداً منهم في النسب من قولهم ويا أخا العرب يا أخا بني تميم يريدون يا واحداً منهم هودا وكان عليه السلام من جملتهم فإنه هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عوص بن إرم بن سام بن نوح.
وقيل : هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ابن عم أبي عاد.
قال الكاشفي :(عاد هارم در هودست وعاد سر عوص بن أرم بن سام بن نوح است وبرين قول از أبناء عم عاد باشد) قال بعضهم : عاد هو اسم القبيلة وهي الفروع المنشعبة من أصل واحد فيكون اسم الأب الكبير في الحقيقة والتعبير بأخص الأوصاف التي هي الأخوة بمعنى انتساب شخصين إلى صلب واحد أو رحم واحد وإلى صلب ورحم معاً، ككونه كذلك بالنسبة إلى اتحاد الأب.
وقال بعضهم : هو اسم ملكهم وكانوا يسمون باسم ملكهم وإنما جعل واحداً منهم لأنهم أفهم لقوله وأعرف بحاله في صدقه وأمانته وأرغب في اقتفائه.
قيل : إن هوداً مكث في ديار قومه أربعين سنة يعبد الله ويتجنب أصنامهم فنزل عليه جبريل بالرسالة إلى بني عاد فذهب هود إليهم وهم بالأحقاف متفرقون، وهي الرمال والتلال وجعل يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وترك عبادة الأصنام، كما قال تعالى : قال استئناف بياني كأنه قيل ماذا قال؟ لهم فقيل قال : يا قوم (اي كروه من) اعبدوا الله وحده لأنه ما لكم من إله غيره فخصوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئاً، وغيره بالرفع صفة لإله باعتبار محله.
إن أنتم إلا مفترون أي : ما أنتم باتخاذكم الأصنام شركاء إلا مفترون على الله الكذب.
قال في التأويلات النجمية : يشير بهود إلى القلب وبعاد إلى النفس وصفاتها فإن القلب أخو عاد النفس لأنهما قد تولدا من ازدواج الروح والقالب.
فالمعنى : إنا أرسلنا هود القلب إلى عاد النفس كما أرسلنا نوح الروح إلى قومه وبهذا المعنى يشير إلى أن القلب قابل لفيض الحق تعالى : كما أن الروح قابل لفيضه، قال : يا قوم اعبدوا الله يشير إلى النفس، وصفاتها أن يتوجهوا لعبودية الحق وطلبه ما لكم من إله غيره، أي : شيء دونه لاستحقاق معبوديتكم ومحبوبيتكم ومطلوبيتكم إن أنتم إلا مفترون فيما تتخذون الهوى والدنيا معبوداً ومطلوباً.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٤٥
يا قوم لا أسألكم عليه أي : على تبلغي الرسالة.
أجراً يعني جعلاً ورشوة، ومعناه لست بطامع في أموالكم.
إن أجرى إلا على الذي فطرني خلقني جعل الصلة فعل الفطرة لكونه أقدم النعم الفائضة من جناب الله تعالى المستوجبة للشكر.
أفلا تعقلون أي : أتغفلون عن هذه القصة فلا تعقلونها.