﴿فَإِن تَوَلَّوْا﴾ فإن تتولوا بحذف إحدى التاءين، أي : وإن تستمروا على التولي والإعراض فلا تفريط مني فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم أي : لأني قد أديت ما عليّ من الإبلاغ وإلزام الحجة وكنتم محجوجين بأن بلغكم الحق فأبيتم إلا التكذيب والجحود، فالمذكور دليل الجزاء.
ويستخلف ربي قوماً غيركم كلام مستأنف، أي : ويهلككم الله ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم ولا تضرونه بتوليكم وإعراضكم شيئاً من ضرر قط لأنه لا يجوز عليه المضار والمنافع وإنما تضرون أنفسكم.
إن ربي على كل شيء حفيظ رقيب فلا يخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مجازاتكم.
واعلم أن بين وجوب التوكل على الله وكونه حفيظاً حصيناً أولاً بأن ربوبيته عامة لكل أحد، ومن يرب يدبر أمر المربوب ويحفظه فلا يحتاج حفظ الغير، وثانياً : بأن كل ذي نفس تحت قهره أسير عاجز عن الفعل والتأثير في غيره
١٤٩
فلا حاجة إلى الاحتراز منه، وثالثاً : بأنه على طريق العدل في عالم الكثرة الذي هو ظل وحدته فلا يسلط أحداً على أحد إلا عن استحقاق لذلك بسبب ذنب وجرم ولا يعاقب أحداً من غير زلة ولو صغيرة نعم قد يكون لتزكية ورفع درجة فالمستفاد في ضمن ذلك كله نفي القدرة عنهم وعن آلهتهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله، والله تعالى لا يظلم الناس مثقال ذرة وما يرى في صورة الظلم فمن خفأ سره وحكمته، والعارف ينظر إلى الأسرار الإلهية ويحمل الوقائع على الحكم حكى أنه كان رجل سقاء بمدينة بخاري يحمل الماء إلى دار صائغ مدة ثلاثين سنة وكان لذلك الصائغ زوجة صالحة في نهاية الحسن والبهاء فجاء السقاء على عادته يوماً وأخذ بيدها وعصرها فلما جاء زوجها من السوق قالت : ما فعلت اليوم خلاف رضي الله تعالى فقال : ما صنعت فألحت فقال : جاءت امرأة إلى دكاني وكان عندي سوار فوضعته في ساعدها فأعجبني بياض يدها فعصرتها فقالت : الله أكبر هذه حكمة خيانة السقاء اليوم فقال الصائغ : أيتها المرأة إني تبت فاجعليني في حل، فلما كان من الغد جاء السقاء وتاب وقال : يا صاحبة المنزل اجعليني في حل فإن الشيطان قد أضلني فقالت : امض فإن الخطأ لم يكن إلا من الشيخ الذي في الدكان فاقتص الله منه في الدنيا، وأمثال ذلك من عدل الله تعالى فليكن العباد على العدالة خصوصاً الحكام والسلاطين، فإن العدل ينفع في الدنيا والآخرة حكى أن ذا القرنين سأل من ارستطاليس أي : شيء أفضل للملوك الشجاعة أم العدل؟ فقال : إذا عدل السلطان لم يحتج إلى الشجاعة، فمن آمن بالملك الديان وخشى من عذابه كل آن، فقد عدل واحترز عن الظلم والطغيان وفاز بالدرجات في أعلى الجنان، وإلا فقد عرض نفسه لعذاب النيران بل ولعذاب الدنيا أيضاً على أشد ما كان، ألا ترى إلى قوله تعالى حكاية ويستخلف ربي قوماً غيركم مع ماله من أنواع اللعنة.
قال : السعدي قدس سره :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٤٩
نماند ستمكار بد روزكار
بماند برو لعنت ايدار
خنك روز محشر تن دادكر
كه در سايه عرش دار دمقر
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٤٩
﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا﴾ أي : عذابنا فيكون واحد الأمور أو أمرنا بالعذاب فيكون مصدر أمر.
نجينا هوداً والذين آمنوا معه وكانوا أربعة آلاف برحمة عظيمة كائنة منا أي : نجيناهم بمجرد رحمة وفضل لا بأعمالهم لأنه لا ينجوا أحد وإن اجتهد في الأعمال والعمل الصالح إلا برحمة الله تعالى كما هو مذهب أهل السنة ونجيناهم من عذاب غليظ شديد، وهو تكرير لبيان ما نجيناهم منه أي : كانت تلك التنجية تنجية من عذاب غليظ وهي السموم التي كانت تدخل أنوف الكفرة وتخرج من أدبارهم فتقطعهم أرباً أرباً وقد سبق تفصيل القصة في سورة الأعراف فارجع إليها.
وفيه إشارة إلى أن العذاب نوعان خفيف وغليظ، فالخفيف، هو عذاب الشقاوة المقدرة قبل خلق الخلق، والغليظ : هو عذاب الشقي بشقاوة معاملات الأشقياء التي تجري عليه مع شقاوته المقدرة له قبل الوجود كما في التأويلات النجمية روى أن الله تعالى لما أهلك عاداً ونجى هوداً والمؤمنين معه أتوا مكة وعبدوا الله تعالى فيها حتى ماتوا.
قال في إنسان العيون : كل نبي من الأنبياء كان إذا كذبه قومه خرج
١٥٠
من بين أظهرهم وأتى مكة يعبد الله تعالى حتى يموت وجاء ما بين الركن اليماني والركن الأسود روضة من رياض الجنة وإن قبر هود وشعيب وصالح وإسماعيل عليهم السلام في تلك البقعة وفي فتوح الحرمين :
هي نبي هي ولي هم نبود
كونه برين دررخ اميد سود
كعبه بود نوكل مشكين من
تازه از وباغ دل ودين من
وتلك القبيلة يا قوم محمد عاد قال العلامة الطيبي : كأنه تعالى أذن بتصوير تلك القبيلة في الذهن ثم أشار إليها وجعلها خبراً للمبتدأ لمزيد الإبهام فيحسن التفسير بقوله جحدوا بآيات ربهم كل الحسن لمزيد الإجمال والتفصيل انتهى.


الصفحة التالية
Icon