قال كعب قوله تعالى : واستعمركم فيها يدل على وجوب عمارة الأرض لأن الاستعمار طلب العمارة، والطلب المطلق منه تعالى يحمل على الأمر والإيجاب.
والمعنى أمركم بالعمارة فيها وأقدركم على إمارتها، كما قال الكاشفي :(شمارا قدرت داد برعمارت زمين تامنازل نزه ساختيد وبر حفر انهار وغرس أشجار اشتغال نموديد).
فاستغفروه فاطلبوا مغفرة الله بالإيمان يعني :(ايمان آريد تا شمارا بيامرزد) فإن ما فصل من فنون الإحسان داع إلى الاستغفار ثم توبوا إليه من عبادة غيره لأن التوبة لا تصح إلا بعد الإيمان وقد سبق تحقيق ثم هذه غير مرة إن ربي قريب أي : قريب الرحمة لقوله تعالى : إن رحمة الله قريب من المحسنين}(الأعراف : ٥٦) ﴿مُّجِيبٌ﴾ لمن دعاء وسأله.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٥٣
قال سعدي المفتي : والذي يلوح للخاطر أن قوله تعالى قريب ناظر لتوبوا ومجيب لاستغفروا أي : ارجعوا إلى الله فإنه قريب ما هو بعيد واسألوا منه المغفرة فإنه مجيب لسائله لا يخيبه :
محالست اكر سربرين در نهى
كه باز آيدت دست حاجت تهى
وحظ العبد من الاسم المجيب أن يجيب ربه فيما أمره ونهاه ويتلقى عباده بلطف الجواب وإسعاف السؤال والعبد إذا أجاب ربه فالله تعالى يجيبه كما قال أبو طالب لرسول الله : ما أطوع ربك فقال عليه السلام : وأنت يا عم لو أطعته لأطاعك.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : الدعاء يوذن بالبعد وهو تعالى القريب وإذا كان القريب فلم تدعو وإن سكت قال لك : لم تدعو؟ هل استكبرت؟ فلم تبق الغبطة إلا للأخرس وهم البكم صم بكم عمى طوبى لهم وحسن مآب انتهى.
وهذا وصف العلماء بالله وهم الذين قيل فيهم من عرف الله كلّ لسانه.
و بيت المقدس درون برقباب
رها كرده ديوار بيرون خراب
بخود سر فرو وبرده همون صدف
نه ماند زدريا بر آورده كف
واعلم أن عمارة الظاهر بأفعال الشريعة من أسباب عمارة الباطن بأخلاق الربانية.
قال العلماء : العمارة متنوعة إلى واجب ومندوب ومباح وحرام.
فالواجب : مثل سد الثغور وبناء القناطر على الأنهر المهلكة وبناء المسجد الجامع في المصر وغير ذلك.
والمندوب : كبناء القناطر على الأنهر الصغيرة والمساجد والمدارس والرباطات ونحو ذلك تيسيراً للناس والمباح كالزوايا والخانقاهات والبيوت التي تقي الحر والبرد وربما تكون الأخيرة واجبة.
قال في الأسرار المحمدية : الغرض من المسكن دفع المطر والبرد وأقل الدرجات فيه معلوم وما زاد عليه فهو من الفضول، والاقتصار على الأقل والأدنى يمكن في الديار الحارة وأما في البلاد الباردة في
١٥٤
غلبة البرد ونفوذه من الجدران الضعيفة حتى كاد يهلك أو يمرض فالبناء بالطين وأحكامه لا يخرجه عن حد الزاهدين، وكذا في أيام الصيف عند اشتداد الحر واستضراره واستضرار أولاده بالبيت الشتوى السفلى لعدم نفود الهواء البارد فيه، ومن براغيثه في الليل المزعجات عن النوم، وأنواع الحشرات فيه فلا يجوز حملهم على الزهد بأن يتركهم على هذه الحال، بل عليه أن يبنى لهم صيفياً علوياً لما روينا عن النبي عليه السلام : من بنى بنياناً في غير ظلم ولا اعتداء، أو غرس غرساً في غير ظلم ولا اعتداء كان له أجراً جارياً ما انتفع به أحد من خلق الرحمن انتهى والحرام كأبنية الجهلة الذين بنوا للمباهاة وأبنية الظلمة وغير ذلك مما ليس له به حاجة.
وفي الخبر من بنى فوق ما يكفيه جاء يوم القيامة وهو حامله على عنقه وفي الحديث : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان منهاتعالى وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار وعمروا الأعمار الطوال مع ما كان فيهم من عسف الرعايا فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه عن سبب تعميرهم فأوحى إليه إنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٥٣
وعن معاوية إنه أخذ في إحياء الأرض في آخر أمره فقيل له فقال : ما حملني عليه إلا قول القائل :
ليس الفتى بفتى يستضاء به
ولا يكون له في الأرض آثار
والمراد بهذه الآثار ما يتناول العمارة الواجبة والمندوبة.
قال سعدي قدس سره :
نمرد آنكه ماند س ازوى بجاي
ل ومسجد وخان ومهمان سراى
هر آن كو نماند ازسش يا دكار
درخت وجودش نياورد بار
وكر رفت آثار خيرش نماند
نشايد س از مرك الحمد خواند
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٥٣
﴿قَالُوا﴾ قوم صالح بعد دعوتهم إلى الله تعالى وعبادته.
يا صالح قد كنت فينا فيما بيننا مرجوا مأمولاً قبل هذا الوقت وهو وقت الدعوة كانت تلوح فيك مخايل الخير وإمارات الرشد والسداد فكنا نرجوك أن تكون لنا سيداً ننتفع بك، ومستشاراً في الأمور ومسترشداً في التدابير فلما سمعنا منك هذا القول انقطع رجاؤنا عنك، وعلمنا أن لا خير فيك كما يقول بعض أهل الإنكار لبعض من يسلك طريق الإرادة والطلب : إن هذا قد فسد بل جن وكان قبل هذا رجلاً صالحاً عاقلاً فلا يرجى منه الخير.
وفي المثنوى :
عقل جزوى عشق را منكربود
كره بنمايد كه صاحب سربود
قال الحافظ :