﴿اقْرَأْ كِتَـابَكَ﴾ أي : كتابتك التي كتبتها ﴿كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ فإن نفسك مرقومة بقلم أعمالك إما برقوم السعادة أو برقوم الشقاوة من اهتدى إلى الأعمال الصالحة فإنما يهتدى لنفسه فيرقمها برقوم السعادة من ضل عنها بالأعمال الفاسدة فإنما يضل عليها فيرقمها برقوم الشقاوة ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ أي : لا يرقم راقم بقلم أوزاره نفس غيره ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ﴾ أي : وما صح وما استقام منا بل استحال في عادتنا المبنية على الحكم البالغة أن نعذب أحداً من أهل الضلال والأوزار اكتفاء بقضية العقل ﴿حَتَّى نَبْعَثَ﴾ إليهم ﴿رَسُولا﴾ يهديهم إلى الحق ويردعهم عن الضلال ويقيم الحجج ويمهد الشرائع قطعاً للمعذرة وإلزاماً للحجة.
وفيه دلالة على أن البعثة واجبة لا بمعنى الوجوب على الله بل بمعنى أن قضية الحكمة تقتضي ذلك لما فيه من المصالح والحكم والمراد بالعذاب المنفي هو العذاب الدنيوي وهو من مقدمات العذاب الأخروي فجوزوا على الكفر والمعاندة بالعذاب في الدارين وما بينهما أيضاً وهو البرزخ والبعث غاية لعدم صحة وقوعه في وقته المقدر له لا لعدم وقوعه مطلقاً كيف لا والأخروي لا يمكن وقوعه عقيب البعث والدنيوي أيضاً لا يحصل إلا بعد تحقق ما يوجبه من الفسق
١٤٢
والعصيان.
﴿وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً﴾ أي : وإذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاك قرية بأن نعذب أهلها ﴿أَمْرُنَآ﴾ بالطاعة على لسان الرسول المبعوث إلى أهلها ﴿مُتْرَفِيهَا﴾ متنعميها وكبارها وملوكها.
والمترف كمكرم من أبطرته النعمة وسعة العيش والترفة بالضم النعمة والطعام الطيب وخصهم بالذكر مع توجه الأمر إلى الكل لأنهم الأصول في الخطاب والباقي اتباع لهم ﴿فَفَسَقُوا فِيهَا﴾ أي : خرجوا عن الطاعة وتمردوا في تلك القرية ﴿فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ﴾ أي : ثبت وتحقق موجبه بحلول العذاب أثر ما ظهر فسقهم وطغيانهم.
قال الكاشفي :(س واجب شود براهل آن ده كلمه عذاب كه سبقت كرفته در حكم ازلى مستوجب عقوبت شدند) ﴿فَدَمَّرْنَـاهَا﴾ بتدمير أهلها وتخريب ديارها.
والتدمير الإهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء ﴿تَدْمِيرًا﴾ وقيل : الأمر مجاز من الحمل على الفسق والتسبب له بأن صب عليهم ما أبطرهم وأفضى بهم إلى الفسوق.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٤٠
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ﴾ كم مفعول أهلكنا ومن القرون تبيين لإبهام كم وتمييز له كما يميز العدد بالجنس أي : وكثيراً من القرون أهلكنا والقرن مدة من الزمان يخترم فيها المرؤ والأصح أنه مائة سنة لقوله عليه السلام لغلام :"عش قرناً" فعاش مائة والقرن كل أمة هلكت فلم يبق منها أحد وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم ﴿مِنا بَعْدِ نُوحٍ﴾ من بعد زمنه كعاد وثمود ومن بعدهم ولم يقل من بعد آدم لأن نوحاً أول نبي بالغ قومه في تكذيبه وقومه أول من حلت بهم العقوبة العظمى وهو الاستئصال بالطوفان ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ﴾ أي : كفى ربك ﴿بِذُنُوبِ عِبَادِه خَبِيرَا بَصِيرًا﴾ يحيط بظواهرها وبواطنها فيعاقب عليها وتقديم الخبير مع أنه مضاف إلى الغيب والأمور الباطنة والبصير مضاف إلى الأمور الظاهرة كالشهيد لتقدم متعلقه من الاعتقادات والنيات التي هي مبادي الأعمال الظاهرة.
وفيه إشارة إلى أن البعث والأمر وما يتلوهما من فسقهم ليس لتحصيل العلم بما صدر عنهم من الذنوب فإن ذلك حاصل قبل ذلك وإنما هو لقطع الأعذار وإلزام الحجة من كل وجه.
وفي الآية تهديد لهذه الأمة لا سيما مشركي مكة لكي يطيعوا الله ورسوله ولا يعصوه فيصيبهم مثل ما أصابهم.
ـ روي ـ عن الشعبي أنه قال : خرج أسد وذئب وثعلب يتصيدون فاصطادوا حمار وحش وغزالاً وأرنباً فقال الأسد للذئب : اقسم فقال حمار الوحش للملك والغزال لي والأرنب للثعلب قال : فرفع الأسد يده وضرب رأس الذئب ضربة فإذا هو منجدل بين يدي الأسد ثم قال للثعلب : اقسم هذه بيننا فقال الحمار يتغدى به الملك والغزال يتعشى به والأرنب بين ذلك فقال الأسد : ويحك ما أقضاك من علمك هذا القضاء فقال القضاء الذي نزل برأس الذئب ولذلك قيل العاقل من وعظ بغيره :
مرد دركارها وكرد نظر
بهزه اعتبار ازان برداشت
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٤٣
هره آن سود مند بود كرفت
هره ناسود مندبود كذاشت
وفي "التأويلات النجمية" ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾ يشير إلى أن الأعمال الصالحة والفاسدة التي ترقم النفوس برقوم السعادة والشقاوة لا يكون لها أثر إلا بقبول دعوة الأنبياء أو بردها فإن السعادة والشقاوة مودعة في أوامر الشريعة ونواهيها ﴿وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً﴾
١٤٣