أي : من قرى النفوس ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾ وهي النفوس الأمارة بالسوء ﴿فَفَسَقُوا فِيهَا﴾ أي : فخرجوا عن قيد الشريعة ومتابعة الأنبياء بمتابعة الهوى واستيفاء شهوات النفس ﴿فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ﴾ أي : فوجبت لها الشقاوة بمخالفة الشريعة ﴿فَدَمَّرْنَـاهَا تَدْمِيرًا﴾ بإبطال استعداد قبول السعادة إذ صارت النفس مرقومة برقوم الشقاوة الأبدية ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنا بَعْدِ نُوحٍ﴾ أي : أبطلنا حسن استعدادهم لقبول السعادة برد دعوة الأنبياء عليهم السلام ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ﴾ إذ لم يقبلوا دعوة الأنبياء ﴿خَبِيرَا بَصِيرًا﴾ فإنه المقدر في الأزل المدبر إلى الأبد أسباب سعادة عباده وأسباب شقاوتهم انتهى.
﴿مَن كَانَ﴾ (هركه باشد از روى خساست همت) ﴿يُرِيدُ﴾ بأعماله ﴿الْعَاجِلَةَ﴾ الدار الدنيا فقط أي : ما فيها من فنون مطالبها وهم الكفرة والفسقة وأهل الرياء والنفاق والمهاجر للدنيا والمجاهد لمحض الغنيمة والذكر ﴿عَجَّلْنَا لَه فِيهَا﴾ أي : في تلك العاجلة ﴿مَا نَشَآءُ﴾ تعجيله له من نعيمها لا كل ما يريد فإن الحكمة لا تقتضي وصول كل واحد إلى جميع ما يهواه ﴿لِمَن نُّرِيدُ﴾ تعجيل ما نشاء له فإنها لا تقتضي وصول كل طالب إلى مرامه فإن الله تعالى يبتلي بعض العباد بالطلب من غير حصول المطلوب وبعضهم يبتلى به بحصول المطلوب المشروط به إما مقارناً لطلبه وإما بعده لأن وقت الطلب قد يفارق وقت حصول المطلوب فيحصل الطلب في وقت والمطلوب في وقت وبعضهم لا يبتلى بالطلب بل يصل إليه الفيض بلا طلب فالأول طلب ولا شيء.
والثاني طلب وشيء.
والثالث شيء ولا طلب قوله :﴿لِمَن نُّرِيدُ﴾ بدل من الضمير في له بإعادة الجار بدل البعض فإنه راجع إلى الموصول المنبىء عن الكثرة ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ﴾ مكان ما عجلنا له ﴿جَهَنَّمَ﴾ وما فيها من أصناف العذاب يدخلها وهو حال من الضمير المجرور ﴿مَذْمُومًا﴾ ملوماً لأن الذم اللوم وهو خلاف المدح والحمد يقال ذممته وهو ذميم غير حميد كما في "بحر العلوم" ﴿مَّدْحُورًا﴾ مطروداً من رحمة الله تعالى فإن الدحر الطرد والإبعاد.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٤٣
﴿وَمِنْ﴾ (هركه ازروى علو همت) ﴿أَرَادَ﴾ بالأعمال ﴿الاخِرَةَ﴾ الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم ﴿وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا﴾ أي : السعي اللائق بها وهو الإتيان بما أمر والانتهاء عما نهى لا التقرب بما يخترعون بآرائهم وفائدة اللام اعتبار النية والإخلاص فإنها للاختصاص ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ أي : والحال أنه مؤمن إيماناً صحيحاً لا شرك معه ولا تكذيب فإنه العمدة فأولئك الجامعون الشرائط الثلاثة من إرادة الآخرة والسعي الجميل لها والإيمان ﴿كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾ مقبولاً عند الله تعالى بحسن القبول مثاباً عليه فإن شكر الله الثواب على الطاعة وفي تعليق المشكورية بالسعي دون قرينيه إشعار بأنه العمدة فيها.
اعلم أن الله تعالى خلق الإنسان مركباً من الدنيا والآخرة ولكل جزء منهما ميل وإرادة إلى كله ليتغذى منه ويتقوى ويتكمل به ففي جزئه الدنيوي وهو النفس طريق إلى دركات النيران وفي جزئه الأخروي وهو الروح طريق إلى درجات الجنان وخلق القلب من هذين الجزءين وله طريق إلى ما بين اصبعي الرحمن اصبع اللطف وأضبع القهر فمن يرد الله به أن يكون مظهر قهره أزاغ قلبه وحول وجهه إلى الدنيا فيريد العاجلة ويربي بها نفسه إلى أن تبلغه إلى دركات جهنم البعد ويصلى نار القطيعة ومن يرد الله به أن يكون مظهر لطفه أقام قلبه وحول وجهه إلى عالم العلو
١٤٤
فيريد الآخرة ويسعى لها سعيها وهو الطلب بالصدق وهو مؤمن بأن من طلبه وجده فأولئك كان سعيهم في الوجود مشكوراً من الموجد في الأزل.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٤٣
﴿كَلا﴾ منصوب بنمد أي : كل واحد من مريدي الدنيا ومريدي الآخرة ﴿نُّمِدُّ﴾ أي : نزيد مرة أخرى بحيث يكون الآنف مدداً للسالف لا نقطعه وما به الإمداد هو ما عجل لأحدهما من العطايا العاجلة وما أعد للآخر من العطايا الآجلة المشار إليها بمشكورية السعي ﴿هَـاؤُلاءِ﴾ بدل من كُلاً ﴿وَهَـاؤُلاءِ﴾ عطف عليه أي : نمد هؤلاء المعجل لهم وهؤلاء المشكور سعيهم ﴿مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ﴾ أي : من معطاه الواسع الذي لا يتناهى له لأن العطاء اسم ما يعطي وهو متعلق بنمد ومغن عن ذكر ما به الإمداد ومنه على أن الإمداد المذكور ليس بطريق الاستيجاب بالسعي والعمل بل بمحض التفضل ﴿وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ﴾ أي : دنيوياً وأخروياً ﴿مَحْظُورًا﴾ ممنوعاً عمن يريده من البر والفاجر بل هو فائض على البر في الدنيا والآخرة وعلى الفاجر في الدنيا فقط وإن وجد منه ما يقتضي الحظر وهو الفجور والكفر، قال الشيخ سعدي :
اديم زمين سفره عام اوست
برين خوان يغماه دشمن ه دوست
س رده بيند عملهاى بد
هم اورده وشد بآلاى خود
وكر برجفا يشه بشتافتى
كى از دست قهرش امان يافتى


الصفحة التالية
Icon