﴿انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ كيف في محل النصب بفضلنا على الحالية لا بانظر لأن الاستفهام يحجب أن يتقدم عليه عامله لاقتضائه صدر الكلام أي : انظر يا محمد بنظر الاعتبار كيف فضلنا بعض الآدميين على بعض فيما أمددناهم من العطايا الدنيوية فمن وضيع ورفيع ومالك ومملوك وموسر وصعلوك تعرف بذلك مراتب العطايا الأخروية ودرجات تفاضل أهلها على طريقة الاستشهاد بحال الأدنى على حال الأعلى كما فصح عنه قوله تعالى :﴿وَلَلاخِرَةُ﴾ أي : هي وما فيها ﴿أَكْبَرَ﴾ من الدنيا ﴿دَرَجَـاتٌ﴾ نصب على التمييز وهي جمع درجة بمعنى المرتبة والطبقة ﴿وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا﴾ وذلك لأن التفاوت في الآخرة بالجنة ودرجاتها العالية لأن ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٤٥
وفي "التأويلات النجمية" ﴿انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ من أهل الدنيا في النعمة والدولة وموافاة المرادت ليتحقق لك أنها من أمدادنا إياهم ﴿وَلَلاخِرَةُ﴾ أي : أهل الآخرة ﴿أَكْبَرُ دَرَجَـاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا﴾ من أهل الدنيا لأن مراتب الدرجات الأخروية وفضائل أهلها باقية غير متناهية ونعمة الدنيا وفضائل أهلها فانية متناهية، قال الحافظ :
في الجملة اعتماد مكن برثبات دهر
كين كار خانه ايست كه تغيير ميكنند
فعلى العاقل تحصيل الدرجات الأخروية الباقية.
وفي الحديث "أكثر أهل الجنة البله وعليون لذوي الألباب" أراد بذوي الألباب العلماء ألا يرى إلى قوله عليه السلام :"فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم" وفي رواية "كفضل القمر على سائر الكواكب" وقد قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في تفسير قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَـاتٍ﴾ (المجادلة : ١١) يرفع العالم فوق المؤمن بسبعمائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض فبهذه الشواهد يتضح أن تفاوت درجات أهل الجنة بحسب تفاوت معارفهم الإلهية وعلومهم الحقيقة كما قال عليه السلام :"إن في الجنة مدينة من نور لم ينظر إليها ملك مقرب ولا نبي مرسل جميع ما فيها من القصور والغرف والأزواج
١٤٥
والخدم من النور أعدها الله للعاقلين فإذا ميز الله أهل النار ميز أهل العقل فجعلهم في تلك المدينة فيحزي كل قوم على قدر عقولهم فيتفاوتون في الدرجات كما بين المشارق والمغارب بألف ضعف" وعنه عليه السلام :"إن في الجنة درجة لا ينالها إلا أصحاب الهموم" يعني : في طلب الخير والمعيشة وقال عليه السلام :"إن في الجنة درجة لا ينالها إلا ثلاثة أقسام : عادل وذو رحم واصل وذو عيال صبور" فقال علي رضي الله عنه : ما صبر ذي العيال قال :"لا يمن على أهله ما ينفق عليهم".
ـ روي ـ أن عدة من الناس اجتمعوا بباب عمر رضي الله عنه فخرج الإذن لبلال وصهيب فشق على أبي سفيان فقال لسهيل بن عمرو : إنما أبينا من قبلنا فإنهم دعوا ودعينا يعني إلى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة ولئن حسدتموهم على باب عمر فما أعد الله لهم في الجنة أكثر.
وقرىء وأكثر تفضيلاً.
وفي قول بعضهم أيها المباهي بالرفع منك في مجالس الدنيا أما ترغب في المباهاة بالرفع في مجالس الآخرة وهي أكبر وأفضل وعنه عليه السلام :"بين المجاهد والقاعد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة" أي : عدوه وعنه عليه السلام :"تعلموا العلم فالله تعالى يبعث يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ثم سائر الخلق على درجاتهم" كما في "بحر العلوم" وفي "المثنوي" :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٤٥
علم را دور كما نرا يك راست
ناقص آمد ظن به برواز ابتراست
مرغ يك ر زود افتد سرنكون
بازبر رد دوكامى يافزون
افت وخيزان ميرد مرغ كمان
بايكى ر بر اميد آشيان
ون زظن وارست وعلمش رونمود
شد دوبر آن مرغ يك ربر كشود
بعد ازان يمشي سويا مستقيم
نى على وجه مكبا او سقيم
اللهم اجعلنا من أهل اليقين والتمكين.
﴿لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ﴾ الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلّم والمراد أمته فإن بعضهم قالوا : الأصل في الأوامر هو وفي النواهي امته.
﴿فَتَقْعُدَ﴾ بالنصب جواباً للنهي والقعود يمعنى الصيرورة وعبارة عن المكث أي : فتمكث في الناس كما تقول لمن سأل عن حال شخص قاعد في أسوأ حال ومعناه ماكث سواء كان قائماً أو جالساً وقد يراد القعود حقيقة لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائراً يتفكر أو عبر بغالب حاله وهو القعود ﴿مَذْمُومًا مَّخْذُولا﴾ خبران أو حالان أي : جامعاً على نفسك الذم من الملائكة والمؤمنين والخذلان من الله تعالى فإن الشريك عاجز عن النصرة.
وفيه إشعار بأن الموحد جامع بين المدح والنصرة وإشارة إلى أن طالب الحق لا يطلب مع الله غيره من الدارين ونعمهما.