﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ أي : أمر كل مكلف أمراً مقطوعاً به فضمن قضى معنى أمر وجعل المضمن أصلاً والمضمن فيه قيداً له لأن المقضي يجب وقوعه ولم يقع من بعض المخاطبين التوحيد.
وفي "التأويلات النجمية" : وإنما قال ربك أراد به النبي لأنه مخصوص بالتربية أصالة والأمة تبع له في هذا الشأن وقوله :﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ أي : حكم وقدر في الأزل ﴿أَن لا تَعْبُدُوا﴾ أي : بأن لا تعبدوا على أن أن مصدورية ولا نافية ﴿إِلَّا إِيَّاهُ﴾ لأن العبادة غاية التعظيم فلا تحق إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإنعام ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا﴾ أي : بأن تحسنوا بهما إحساناً لأنهما السبب
١٤٦
الظاهري للوجود والتعيش والله تعالى هو السبب الحقيقي فأخبر تعظيم السبب الحقيقي ثم اتبعه بتعظيم السبب الظاهري يعني الله تعالى قرن إحسان الوالدين بتوحيده لمناسبتهما لحضرة الألوهية والربوبية في سببيتهما لوجودك وتربيتهما إياك عاجزاً صغيراً وهما أول مظهر ظهر فيهما آثار صفات الله تعالى من الإيجاد والربوبية والرحمة والرأفة بالنسبة إليك ومع ذلك فهما محتاجان إلى قضاء حقوقهما والله غني عن ذلك.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٤٥
فأهم الواجبات بعد التوحيد إحسانهما وفي الحديث :"بر الوالدين أفضل من الصلاة والصوم والحج والعمرة والجهاد في سبيل الله" ذكره الإمام ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلاهُمَا﴾ (اكر برسد نزديك تو بزرك سالى وكبر سن يكى ازايشان ياهردو ايشان يعني بزنيد تاير شوند ومحتاج خدمت تو كردند)، قوله : إما مركبة من أن الشرطية وما المزيدة لتأكيدها ولذلك حل الفعل نون التأكيد ومعنى عندك في كنفك وكفالتك وأحدهما فاعل للفعل وتوحيد ضمير الخطاب في عندك وفيما بعده مع أن ما سبق على الجمع للاحتراز عن التباس المراد فإن المقصود نهي كل أحد عن تأفيف والديه ونهرهما ولو قوبل الجمع بالجمع أو بالتثنية لم يحصل هذا المراد، قال في ي"الأسئلة المقحمة" : إن قلت كيف خص الله حال الكبر بالإحسان إلى الوالدين وهو واجب في حقهما على العموم والجواب أن هذا وقت الحاجة في الغالب وعند عدم الحاجة إجابتهما ندب وفي حالة الحاجة فرض انتهى ﴿فَلا تَقُل لَّهُمَآ﴾ أي : لواحد منهما حالتي الانفراد والاجتماع ﴿أُفٍّ﴾ هو صوت يدل على تضجر واسم للفعل الذي هو الضجر وقرىء بحركات الفاء فالتنوين على قصد التنكير كصه ومه وايه وغاق وتركه على قصد التعريف والكسر على أصل البناء إن بني على الكسر لالتقاء الساكنين وهما الفاآن والفتح على التخفيف والضم للاتباع كمنذ وهو بالشاذ.
والمعنى لا تتضجر بما تستقذر منهما وتستثقل من مؤونتهما وهو عام لكل أذى لكن خص بعضه بالذكر اعتناء بشأنه فقيل :﴿وَلا تَنْهَرْهُمَا﴾ أي : لا تزجرهما بإغلاظ إذا كرهت منهما شيئاً ﴿وَقُل لَّهُمَا﴾ بدل التأفيف ﴿قَوْلا كَرِيمًا﴾ ذا كرم وهو القول الجميل الذي يقتضيه حسن الأدب ويستدعيه النزول على المروءة مثل أن تقول : يا أبتاه ويا أماه كدأب إبراهيم عليه السلام إذ قال لأبيه : يا أبت مع ما به من الكفر ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوء الأدب وديدن الدعاء إلا أن يكون في غير وجههما كما قالوا ولا يرفع صوته فوق صوتهما ولا يجهر لهما بالكلام بل يكلمهما بالهمس والخضوع إلا لضرورة الصمم والإفهام ولا يسب والدي رجل فيسب ذلك الرجل والديه ولا ينظر إليهما بالغضب.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٤٥
﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ﴾ جناح الذل استعارة بالكناية جعل الذل والتواضع بمنزلة طائر فأثبت له الجناح تخييلاً أي : تواضع لهما ولين جانبك وذلك أن الطائر إذا قصد أن ينحط خفض جناحه وكسره وإذا قصد أن يطير رفعه فجعل خفض جناحه عند الانحطاط مثلاً في التواضع ولين الجانب.
قال القاضي وأمره بخفضه مبالغة في إيجاب الذل وترشيحاً للاستعارة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : كن مع الوالدين كالعبد المذنب الذليل الضعيف للسيد الفظ الغليظ أي : في التواضع والتملق ﴿مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ من ابتدائية أو تعليلية أي : من فرط رحمتك عليهما
١٤٧
لافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما قالوا : ينظر إليهما بنظر المحبة والشفقة والترحم وفي الحديث "ما من ولد ينظر إلى الوالد وإلى والدته نظر مرحمة إلا كان له بها حجة وعمرة" قيل : وإن نظر في اليوم ألف مرة قال :"وإن نظر في اليوم مائة ألف" كما في "خالصة الحقائق" ويقبل رجل أمه تواضعاً.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٤٧


الصفحة التالية
Icon