وأما إذا كان صاحب مقام وتمكين وقوة بأن عرف الفرق بين الحال والمقام صارت نفسه عنه أجنبية وارتفع هو علوياً وبقيت مع أبناء جنسها سفلية فلزمه العطف عليها كما لزمه العطف على غيرها لأن أدب العارف من ذي الولاية أنه إذا خرج بصدقة ولقي أول مسكين يليق لدفع الصدقة إليه يدفعها إليه البتة فإذا تركه إلى مسكين آخر ولم يدفع للأول فقد انتقل من ربه إلى هوى نفسه فإنها مثل الرسالة لا يخص بالدعوة شخصاً دون شخص فأول من يلقاه يقوله قل لا إله إلا الله فالولي الكامل خليفة الرسول فإذا وهب الباري للولي رزقاً يعلم أنه مرسل به إلى عالم النفوس الحيوانية فينزل من سماء عقله إلى أرض النفوس ليؤدي إليهم ذلك القدر الذي وجه به فأول نفس تستقبله نفسه لا نفس غيره لأن نفوس الغير ليست متعلقة به فلا تعرفه.
وأما نفسه فمتعلقة به ملازمة بابه فلا يفتحه إلا عليها فتطلب أمانتها فيقدمها على غيرها بالإعطاء لأنها أول سائل وإلى هذا السر أشار الشارع صلى الله عليه وسلّم بقوله :"ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" والأقربون أولى بالمعروف لتعلقهم بك ولزومهم بابك ولا تعلق للغير بك ولا له ملازمة نفسك وأهلك فلما تأخروا أخروا كسائر أسرار الله تعالى متى خرج من عند الحق على باب الرحمة فأي قلب وجد سائلاً متعرضاً دفع إليه حظه من الأسرار والحكم على قدر ما يراقبه من التعطش والجوع والذلة والافتقار وهم خاصة الله وعلى هذا المقام حرض الشارع بقوله :"تعرضوا لنفحات الله سبحانه" وهذا سر الحديث ومراد الشرع فمن تأخر أخر ومن نسي نسي فانظر الآن كم بين المنزلتين والمقامين ثم انظر أيضاً إلى هذا المقام على علوه وسموه كيف اشترك في الظاهر مع أحوال العامة فإنهم أول ما يجودون فعلى نفوسهم ثم إلى غيرها وإنما تصرفهم تحت حكم هذه الحقيقة وهم لا يشعرون وبعماهم عن هذه الأسرار ونزولهم إلى حضيض البهائم بحيث لا يعرفون مواقع أسرار العالم مع الله حرصوا على الإيثار ومدحوا به وهو مقام الحلاج الذي ذكر عنه وظننت أنه غاية في الترقي والعلو وهكذا فلتعزل الحقائق وتحاك حلل الدقائق أهـ.
كلام الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر والمسك الأذفر قدس سره الأطهر.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٥٢
﴿وَلا تَقْتُلُوا﴾ يا معشر العرب ﴿أَوْلَـادُكُم﴾ (فرزندان شما) ﴿خَشْيَةَ إِمْلَـاقٍ﴾ مخافة الفقر ولا لغير مخافته إلا أن الحال اقتضت ذلك يقال أملق : افتقر وقتلهم أولادهم وأدهم بناتهم مخافة الفقر أي : دفنها حية فنهاهم الله تعالى عنه وضمن لهم أرزاقهم فقال :﴿نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾ لا غيرنا (س غم روزى ايشان مخوريدكه هركرا اوجان دهد نان دهد)، سعدي :
خداوند كارى كه عبدى خريد
بدارد فكيف آنكه عبد آفريد
١٥٣
ترانيست اين تكيه بر كردكار
كه مملوك را بر خداوند كار
قال هرم لاويس القرني رحمه الله : أين تأمرني أن أكون فأومأ إلى الشام فقال الهرم : كيف المعيشة بها قال أويس : أف لهذه القلوب قد خالطها الشك فما تنفعها العظة ﴿إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْـاًا كَبِيرًا﴾ ذنباً عظيماً لما فيه من هدم بنيان الله وقطع النسل.
والخطىء كالإثم وزناً ومعنى من خطىء وقرىء خطا بفتحتين بالقصر والمد.
اعلم أن من أول هذه الآية إلى قوله تعالى :﴿مَلُومًا مَّدْحُورًا﴾ عشر آيات وهو إشارة إلى تبديل عشر خصال مذمومة بعشر خصال محمودة.
أما المذمومات فأولها البخل، وثانيها الأمل وهما في قوله تعالى :﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَـاقٍ﴾ فإن البخل وطول الأمل حملهم على قتل أولادهم فدلهم على تبديلهما بالسخاء والتوكل بقوله :﴿نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾.
ـ يحكى ـ أن يحيى بن زكريا عليهما السلام لقي إبليس في صورته فقال له : يا إبليس أخبرني بأحب الناس إليك وأبغض الناس إليك فقال : أحب الناس إلي المؤمن البخيل وأبغضهم إلي الفاسق السخي قال يحيى : وكيف ذلك؟ قال : لأن البخيل قد كفاني بخله والفاسق السخي أتخوف أن يطلع الله عليه في سخاه فيقبله ثم ولى وهو يقول : لولا أنك يحيى لم أخبرك.
قالوا : ولا ينبغي أن يلجىء أهل بيته على الزهد بل يدعوهم إليه فإن أجابوا وإلا تركهم ووسع عليهم في دنياهم من غير خروج عن حد الاعتدال وفعل بنفسه ما شاء.
﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَىا﴾ بالقصر وإتيان المقدمات من القبلة والغمزة والنظر الشهوة فضلاً عن أن تباشروه.
وقرىء بالمد لغتان أو مصدر زانى زناء كقاتل قتالاً كما في "الكواشي" ﴿أَنَّهُ﴾ أي : الزنى ﴿كَانَ فَاحِشَةً﴾ فعلة ظاهرة القبح متجاوزة الحد وهو كالقتل فإن فيه تضييع الأنساب فإن من لم يثبت نسبه ميت حكماً ﴿وَسَآءَ سَبِيلا﴾ أي : بئس طريق الزنى لأنه يجر صاحبه إلى النار وهو طريق أيضاً إلى قطع الأنساب وتهيج الفتن وفي الحديث :"إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان على رأسه كالظلة فإذا انقطع رجع إلى الإيمان".
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٥٢


الصفحة التالية
Icon