واعلم أن الله أثبت لكل ذرة من ذرات الموجودات ملكوتاً بقوله :﴿فَسُبْحَـانَ الَّذِى بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ (يس : ٨٣) والملكوت باطن الكون وهو الآخرة والآخرة حيوان لا جماد لقوله تعالى :﴿وَإِنَّ الدَّارَ الاخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ﴾ (العنكبوت : ٦٤) فثبت بهذا الدليل على أن لكل ذرة من ذرات الموجودات لساناً ملكوتياً ناطقاً بالتسبيح والحمد تنزيهاً لصانعه وبارئه وحمداً له على ما أولاه من نعمه وبهذا اللسان نطق الحصى في يد النبي صلى الله عليه وسلّم وبهذا تنطق الأرض يوم القيامة كما قال :﴿يَوْمَـاـاِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ وبهذا اللسان تشهد أجزاء الإنسان وأبعاضه يوم القيامة ويقولون : أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء، وبهذا اللسان نطق السموات والأرض حين ﴿قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ﴾ (فصلت : ١١) فافهم جداً واغتنم ﴿إِنَّه كَانَ حَلِيمًا﴾ في الأزل إذ أخرج من العدم من يتولد منه أن يتخذ مع الله آلهة أخرى ﴿غَفُورًا﴾ لمن تاب عن مثل هذه المقالات انتهى.
وقال القاشاني : اعلم أن لكل شيء خاصية لا يشاركه فيها غيره وكما لا يخصه دون ما عداه يشتاقه ويطلبه إذا لم يكن حاصلاً ويحفظه ويحبه إذا حصل فهو إظهار خاصيته وتوحده في تلك الخاصية ينزهه تعالى عن الشريك فكأنه يقول بلسان الحال أوحده على ما وحدني وإلا لم يكن متفرداً بها متوحداً فيها وبطلب كماله ينزهه عن صفات النقص كأنه يقول يا كامل كملني وبإظهار كماله بحمده ويقول أحمده على ما كملني حتى
١٦٦
أن الحيوان في طلب الرزق يقول : يا رزاق ارزقني وبوجود الرزق يقول : أحمده على ما رزقني وبإشفاقه على ولده يقول : أرأفني الرؤوف وأرحمني الرحيم فالسموات السبع تسبحه وتنزهه عن العجز والفناء وتحمده بالديمومية والعلو والتأثير والقدرة والبقاء والملك والربوبية وبأن كل يوم هو في شأن والأرض بالدوام والثبات والخلاقية والرزاقية وقبول الطاعة وأمثال ذلك والملائكة بالحياة والعلم والقدرة والمجردات منهم بالتنزه عن التعلق بالمادة والوجوب مع جميع ما ذكر منهم مع كونهم مسبحين إياه مقدسين له حامدين فإن كل ما يحمده بصفة كمالية ينزهه ويسبحه بمقابلها وكل مسبح عن نقصان يحمده بكمال يقابله فهم يسبحونه في عين التحميد ويحمدونه في عين التسبيح ولكون لا تفقهون تسبيحهم لقلة النظر والفكر في ملكوت الأشياء وعدم الإصغاء إليهم للغفلة وإنما يفقه من كان له قلب منور بنور التوحيد أو ألقى السمع وهو شهيد فإن القلب من عالم الملكوت فإذا تنور بنور التوحيد يفقه تسبيح الأشياء لأنه في عالمه أنه كان حليماً لا يعاجلكم بعقوبة ترك التسبيح في طلب كمالاتكم وإظهار خواصكم التي منها فهم تسبيح الأشياء وتوحيده كما وحدوه وغفوراً يغفر غفلاتكم وإهمالكم انتهى كلامه مع بعض تغييرات وزيادة والله الهادي إلى طريق حقيقة التسبيح والتوحيد لكل سالك مريد.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٦٢
﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ﴾ (وون مى خوانى قرآنرا) ﴿جَعَلْنَا بَيْنَكَ﴾ (مى سازيم ومى آريم ميان تو) ﴿وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ﴾ وهم كفار قريش وكانوا منكري البعث ﴿حِجَابًا﴾ يحجبهم من أن يدركوك على ما أنت عليه من النبوة ويفهموا قدرك الجليل ولذلك اجترأوا على أن يقولوا إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً ﴿مَّسْتُورًا﴾ عن الحس بمعنى غير حسي مشاهد فمستور على موضوعه أو ذا ستر فصيغة مفعول للنسبة كقولهم سيل مفعم أي : ذو إفعام من أفعمت الإناء أي : ملأته هذا ما ذهب إليه المولى أبو السعود رحمه الله في هذه الآية.
وقال في "الكواشي" : كان المشركون يؤذون النبي صلى الله عليه وسلّم مصلياً وجاءت أم لهب بحجر لترضخه فزل انتهى فيكون معنى قوله :﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ﴾ وإذا صليت عبر عن الصلاة بالقرآن لاشتمالها عليه كما عبر عن الخطبة به على بعض الأقوال في قوله تعالى :﴿وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَه وَأَنصِتُوا﴾ (الأعراف : ٢٠٤) الآية فيلزم أن تحمل الآية على خصوص المادة فهم إذاً لم يروا الحجاب فلا يرون المحتجب به فيسلم من أذاهم ولم يكن كذلك دائماً كما يدل عليه القواطع.
وقال سعدي المفتي : لعل الأولى أن يحمل على ما روي أنها أنزلت في أبي سفيان والنضير وأبي جهل وأم جميل امرأة أبي لهب كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا قرأ القرآن فحجب الله أبصارهم إذا قرأ وكانوا يمرون به ولا يرونه انتهى.
وهو ذهول عما بعد الآية في قوله تعالى :﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ﴾ كما يأتي مع ما فيه من الرواية وهو اللائح بالضمير في هذا المقام الخطير.


الصفحة التالية
Icon