﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ﴾ واذكر إذ أوحينا إليك ﴿إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ﴾ أي : علماً وقدرة فهم في قبضته فامض لأمرك ولا تخف أحداً.
قال بعض الكبار : إحاطة الله سبحانه عند العارفين بالموجودات كلها عبارة عن تجليه بصور الموجودات فهو سبحانه بأحدية جميع أسمائه سار في الموجودات كلها ذاتاً وحياة وعلماً وقدرة إلى غير ذلك من الصفات والمراد بإحاطته تعالى هذه السراية ولا يعزب عنه ذرة في السموات والأرض وكل ما يعزب عنه يلتحق بالعدم وقالوا : هذه الإحاطة ليست كإحاطة الظرف بالمظروف ولا كإحاطة الكل بأجزاءه ولا كإحاطة الكلي بجزئياته بل كإحاطة الملزوم بلازمه فإن التعينات اللاحقة لذاته المطلقة إنما هي لوازم له بواسطة أو بغير واسطة وبشرط أو بغير شرط ولا تقدح كثرة اللوازم في وحدة الملزوم ولا تنافيها ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِى أَرَيْنَـاكَ إِلا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ﴾ المراد بالرؤيا ما عاينه عليه السلام ليلة المعراج من عجائب الأرض والسماء والتعبير عن ذلك بالرؤيا إما لأنه لا فرق بينه وبين الرؤية كما في "الكواشي" الرؤيا تكون نوماً ويقظة كالرؤية أو لأنها وقعت بالليل وتقضت بالسرعة كأنها منام أو لأن الكفرة قالوا : لعلها رؤيا فتسميتها رؤيا على قول المكذبين.
قال في "الحواشي السعدية" قد يقال تسميتها رؤيا على وجه التشبيه والاستعارة لما فيها من الخوارق التي هي بالمنام أليق في مجاري العادات انتهى.
أي : وما جعلنا الرؤية التي أريناكها ليلة الإسراء عياناً مع كونها آية عظيمة حقيقة بأن لا يتلعثم في تصديقها أحد ممن له أدنى بصيرة إلا فتنة افتتن بها الناس حتى ارتد بعضهم ﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ﴾ عطف على الرؤيا والمراد بلعنها فيه لعن طاعمها على الإسناد المجازي أو إبعادها عن الرحمة فإن تلك الشجرة التي هي الزقوم تنبت في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة أي : وما جعلناها إلا فتنة لهم حيث أنكروا ذلك وقالوا : أن محمداً يزعم الجحيم تحرق الحجارة ثم يقول : ينبت فيها الشجر ولقد ضلوا في ذلك ضلالاً بعيداً حيث كابروا قضية عقولهم فإنهم يرون النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد المحماة فلا يضرها ويشاهدون المناديل المتخذة من وبر السمندل تلقى في النار ولا تؤثر فيها.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٧٥
قال الكاشفي :(وعجب ازيشان بودكه ازدرخت سبز آتش ميكر فتند كما قال تعالى :﴿جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الاخْضَرِ نَارًا﴾ (يس : ٨٠) وهي فكر نمى كردندكه آتش در درخت وديعت نهد ه عجب كه درخت در آتش بروياند) وهو المرخ والعفار يوجدان في أغلب بوادي العرب يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين وهما أخضران يقطر منهما الماء
١٧٨
فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهو أنثى فتنقدح النار بإذن الله تعالى ﴿وَنُخَوِّفُهُمْ﴾ بذلك وبنظائره من الآيات فإن الكل للتخويف ﴿فَمَا يَزِيدُهُمْ﴾ التخويف ﴿إِلا طُغْيَـانًا كَبِيرًا﴾ عتوا متجاوزاً عن الحد فلو أنا أرسلنا بما اقترحوه من الآيات لفعلوا بها ما فعلوا بنظائرها وفعل بهم ما فعل بأشياعهم وقد قضينا بتأخير العقوبة العامة لهذه الأمة إلى الطامة الكبرى.
وأوحى الله إلى عيسى عليه السلام كم من وجه مليح صبيح ولسان فصيح وبدن صحيح غدا بين طباق النيران يصيح فلا بدّ من الخوف فإن العارفين يخافون فما ظنك بغيرهم.
قال المزني : دخلت على الشافعي رحمه الله في مرضه الذي مات فيه فقلت له : كيف أصبحت يا أستاذي؟ قال : أصبحت عن الدنيا راحلاً ولإخواني مفارقاً ولعملي ملاقياً ولكأس المنية شارباً وعلى الله وارداً فما أدري أروحي إلى جنة أم إلى نار ثم أنا أقول :
ولم أدر أي الحالتين تنوبني
وأنك لا تدري متى أنت ميت
وفي "المثنوي" :
لا تخافوا هست نزل خائفان
هست درخور از براى خائفان
هركه ترسد مرورا ايمن كنند
مردل ترسنده را ساكن كنند
آنكه خوفش نيست ون كويى مترس
درس ه دهى نيست او محتاج درس
واعلم أن رؤية الآيات واستماعها تزيد المؤمنين إيماناً وتقويهم في باب اليقين لأن التربة الطيبة لا تغير الماء الزلال ولا تخرجه عن طبعه والخبيثة لا يحصل لها به نماء إذ لا يستعد ولا يستحق إلا العقم نسأل الله تعالى أن يفيض علينا سجال العلوم ويزيدنا في الفهوم.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٧٥
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـائِكَةِ﴾ أي : واذكر وقت قولنا للملائكة ما عدا الأرواح العالية وهم الملائكة المهيمة الذين لا شعور لهم بخلق آدم عليه السلام ولا بغيره لاستغراقهم في شهود الحق تعالى ﴿اسْجُدُوا لادَمَ﴾ تحية وتكريماً لماله من الفضائل المستوجبة لذلك.