وفي "التأويلات النجمية" : إن الله تعالى خلق العوالم الكثيرة ففي بعض الروايات خلق ثلاثمائة وستين ألف عالم ولكنه جعلها محصورة في عالمين اثنين وهما الخلق والأمر كما قال تعالى :﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ﴾ (الأعراف : ٥٤) فعبر عن عالم الدنيا وما يدرك بالحواس الخمس الظاهرة وهي : السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس بالخلق وعبّر عن عالم الآخرة وهو ما يدرك بالحواس الخمس الباطنة وهي العقل والقلب والسر والروح والخفي بالأمر فعالم الأمر هو الأوليات العظائم التي خلقها الله تعالى للبقاء من الروح والعقل والقلم واللوح والعرش والكرسي والجنة والنار ويسمى عالم الأمر أمراً لأنه أوجده بأمر كن من لا شيء بلا واسطة شيء كقوله :﴿خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْـاًا﴾ (مريم : ١) ولما كان أمره قديماً فما كوّن بالأمر القديم وإن كان حادثاً كان باقياً وسمي عالم الخلق خلقاً لأنه أوجده بالوسائط من شيء كقوله :﴿وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ﴾ (الأعراف : ١٨٥) فلما أن الوسائط كانت مخلوقة من شيء مخلوق سماه خلقاً خلقه الله للفناء فتبين أن قوله :﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى﴾ إنما هو لتعريف الروح معناه أنه من عالم الأمر والبقاء لا من عالم الخلق والفناء وأنه ليس للاستبهام كما ظن جماعة أن الله تعالى أبهم علم الروح على الخلق واستأثره لنفسه حتى قالوا : إن النبي عليه السلام لم يكن عالماً به جل منصب حبيب الله عن أن يكون جاهلاً بالروح مع أنه عالم بالله وقد منّ الله عليه بقوله :﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُا وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ (النساء : ١١٣) احسبوا أن علم الروح مما لم يكن يعلمه ألم يخبر أن الله علمه ما لم يكن يعلم فأما سكوته عن جواب سؤال الروح وتوقفه انتظاراً للوحي حين سألته اليهود فقد كان لغموض يرى في معنى الجواب ودقة لا تفهمها اليهود لبلادة طباعهم وقساوة قلوبهم وفساد عقائدهم فإنه وما يعقلها إلا العالمون وهم أرباب السلوك والسائرون إلى الله فإنهم لما عبروا عن النفس وصفاتها ووصلوا إلى حريم القلب عرفوا النفس بنور القلب ولما عبروا بالسر عن القلب وصفاته ووصلوا إلى مقام السر عرفوا بعلم السر القلب وإذا عبروا عن السر ووصلوا إلى عالم الروح عرفوا بنور الروح السر وإذا عبروا عن عالم الروح ووصلوا إلى منزل الخفي عرفوا بشواهد الحق الروح وإذا عبروا عن منزل الخفي ووصلوا إلى ساحل بحر الحقيقة عرفوا بأنوار صفات مشاهدات الجميل الخفي وإذا فنوا بسطوات تجلي صفات الجلال عن أنانية الوجود ووصلوا إلى لجة
١٩٨
بحر الحقيقة كوشفوا بهوية الحق تعالى وإذا استغرقوا في بحر الهوية وأبقوا ببقاء الألوهية عرفوا الله بالله فإذا كان هذا حال الولي فكيف حال من يقول : علمت ما كان وما سيكون.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٩٤


الصفحة التالية
Icon