واعلم أن الروح الإنساني وهو أول شيء تعلقت به القدرة جوهرة نورانية ولطيفة ربانية من عالم الأمر وعالم الأمر هو الملكوت الذي خلق من لا شيء وعالم الخلق هو الملك الذي خلق من شيء كقوله تعالى :﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِى مَلَكُوتِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ (الأعراف : ١٨٥) وما خلق الله من شيء والعالم عالمان يعبر عنهما بالدنيا والآخرة والملك والملكوت والشهادة والغيب والصورة والمعنى والخلق والأمر والظاهر والباطن والأجسام والأرواح ويراد بهما ظاهر الكون وباطنه فثبت بالآية أن الملكوت الذي هو باطن الكون خلق من لا شيء إذ ما عداه من الملك خلق من شيء وأما قوله صلى الله عليه وسلّم "أول ما خلق الله جوهرة" "وأول ما خلق الله روحي" "وأول ما خلق الله العقل.
وأول ما خلق الله القلم".
وقول بعض الكبراء من الأئمة : إن أول المخلوقات على الإطلاق ملك كروبي يسمى العقل وهو صاحب القلب وتسميته قلماً كتسمية صاحب السيف سيفاً كما قيل لخالد بن وليد رضي الله عنه سيف الله وهو أول لقب في الإسلام وقول الله تعالى :﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ والملائكة صَفًّا﴾ (النبأ : ٣٨) وقد جاء في الخبر "إن الروح ملك يقوم صفاً" فلا يبعد أن يكون هذا الملك العظيم الذي هو أول المخلوقات هو الروح النبوي فإن المخلوق الأول مسمى واحد وله أسماء مختلفة فبحسب كل صفة فيه سمي باسم آخر ولا ريب أن أصل الكون كان النبي عليه السلام لقوله :"لولاك لما خلقت الكون" فهو أولى أن يكون أصلاً وما سواه أولى أن يكون تبعاً له لأنه كان بالروح بذر شجرة الموجودات فلما بلغ أشده وبلغ أربعين سنة كان بالجسم والروح ثمرة شجرة الموجودات وهي سدرة المنتهى فكما أن الثمرة تخرج من فرع الشجرة كان خروجه إلى قاب قوسين أو أدنى ولهذا قال :"نحن الآخرون السابقون" يعني : الآخرون بالخروج كالثمرة والسابقون بالخلق كالبذر فيلزم من ذلك أن يكون روحه صلى الله عليه وسلّم أول شيء تعلقت به القدرة وأن يكون هو المسمى بالأسماء المختلفة فباعتبار أنه كان درة صدف الموجودات سمي درة وجوهرة كما جاء في الخبر "أول ما خلق الله جوهرة" وفي رواية "درة فنظر إليها فذابت فخلق منها كذا وكذا" وباعتبار نورانيته سمي نوراً وباعتبار وفور عقله سمي عقلاً وباعتبار غلبات الصفات الملكية عليه سمي ملكاً وباعتبار أنه صاحب القلم سمي قلماً وكيف يظن به عليه السلام أنه لم يكن عارفاً بالروح والروح هو نفسه وقد قال :"من عرف نفسه فقد عرف ربه" والأرواح كلها خلقت من روح النبي صلى الله عليه وسلّم وأن روحها أصل الأرواح ولهذا سمي أمياً أي : أنه أم الأرواح فكما كان آدم عليه السلام أبا البشر كان النبي عليه السلام أبا الأرواح وأمها كما كان آدم أباً وحوا أمها وذلك أن الله تعالى لما خلق روح النبي عليه السلام كان الله ولم يكن معه شيء إلا روحه وما كان شيء آخر حتى ينسب روحه إليه أو يضاف إليه غير الله فلما كان روحه أول باكورة أثمرها الله تعالى بإيجاده من شجرة الوجود وأول شيء تعلقت به القدرة شرفه بتشريف إضافته إلى نفسه تعالى فسماه روحي كما سمي أول بيت من بيوت
١٩٩
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٩٤
الله وضع للناس وشرفه بالإضافة إلى نفسه فقال له بيتي ثم حين أراد أن يخلق آدم سواه ونفخ فيه من روحه أي : من الروح المضاف إلى نفسه وهو روح النبي صلى الله عليه وسلّم كما قال :﴿فَإِذَا سَوَّيْتُه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى﴾ (الحجر : ٢٩) فكان روح آدم من روح النبي عليه السلام بهذا الدليل وكذلك أرواح أولاده لقوله تعالى :﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَه مِن سُلَـالَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاـاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ﴾ (السجدة : ٨ ـ ٩) وقال في عيسى ابن مريم عليه السلام :"ونفخنا فيه من روحنا" فكانت النفخة لجبريل وروحها من روح النبي عليه السلام المضاف إلى الحضرة وهذا أحد أسرار قوله :"آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة" ثم قوله تعالى :﴿وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا﴾ راجع إلى اليهود الذين سألوا النبي عليه السلام عن الروح يعني أنكم سألتموني وقد أجبتكم أنه من أمر ربي ولكنكم ما تفقهون كلامي لأني أخبركم عن عالم الآخرة وعن الغيب وأنتم أهل الدنيا والحس وعلمها قليل بالنسبة إلى الآخرة وعلمها فإنكم عن علمها غافلون كقوله تعالى :﴿يَعْلَمُونَ ظَـاهِرًا مِّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاخِرَةِ هُمْ غَـافِلُونَ﴾ (الروم : ٧) انتهى ما في "التأويلات" باختصار.