﴿وَلا تَقُولَنَّ﴾ نهي تأديب أي : لأجل شيء تعزم عليه ﴿إِنِّى فَاعِلٌ ذَالِكَ﴾ الشيء ﴿غَدًا﴾ أي : فيما يستقبل من الزمان مطلقاً فيدخل فيه الغد دخولاً أولياً فإنه نزل حين قالت اليهود لقريش سلوه عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فسألوه صلى الله عليه وسلّم فقال :"ائتوني غداً أخبركم" ولم يستثن أي : لم يقل إن شاء وتسميته استثناء لأنه يشبه الاستثناء في التخصيص فابطأ عليه الوحي أيام حتى شق عليه.
يعني :(غبار ملال بر مرآت دل بي غل آن حضرت نشست) وكذبته قريش وقالوا ودعه ربه وأبغضه.
﴿إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ﴾ استثناء مفرغ من النهي أي : لا تقولن ذلك في حال من الأحوال إلا حال ملابسته بمشيئته تعالى على الوجه المعتاد وهو أن يقال إن شاء الله وفيه إشارة إلى أن الاختيار والمشيئةوأفعال العباد كلها مبنية على مشيئته كما قال :﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ﴾ ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ﴾ أي : قل إن شاء الله ﴿إِذَا نَسِيتَ﴾ ثم تذكرته كما روى أنه عليه السلام لما نزل قال :"إن شاء الله" ﴿وَقُلْ عَسَى﴾ (شايدكه) ﴿أَن يَهْدِيَنِ رَبِّى﴾ أي : يوفقني ﴿لاقْرَبَ مِنْ هَـاذَا﴾ أي : لشيء أقرب وأظهر من نبأ أصحاب الكهف من الآيات والدلائل الدالة على نبوتي ﴿رَشَدًا﴾ أي : إرشاداً للناس ودلالة على ذلك وقد فعل حيث أراه من البينات ما هو أعظم من ذلك وأبين كقصص الأنبياء المتباعدة أيامهم والحوادث النازلة في الأعصار المستقبلة إلى قيام الساعة.
قال سعدي المفتي : لما جعل اليهود الحكاية عن أصحاب الكهف دالة على نبوته هون الله أمرها وقال :﴿قُلْ عَسَى﴾ الآية كما هون المحكي في مفتتح الكلام بقوله :﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَـابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ﴾ الآية انتهى.
وقال السمرقندي في "بحر العلوم" : والظاهر
٢٣٤
أن يكون المعنى إذا نسيت شيئاً فاذكر ربك وذكر ربك عند نسيانه أن تقول عسى ربي أن يهديني لشيء آخر بدل هذا المنسي أقرب منه رشداً وأدنى خيراً ومنفعة انتهى.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٣٣
قال الإمام في تفسيره : والسبب في أنه لا بد من ذكر هذا القول هو أن الإنسان إذا قال سأفعل الفعل الفلاني غداً لم يبعد أن يموت قبل أن يجيىء الغد ولم يبعد أيضاً لو بقي حياً أن يعوقه من ذلك الفعل عائق فإذا لم يقل إن شاءصار كاذباً في ذلك الوعد والكذب منفر وذلك لا يليق بالأنبياء عليهم السلام فلهذا السبب وجب عليه أن يقول : إن شاء الله حتى أنه بتقدير أن يتعذر عليه الوفاء بذلك الموعود لم يصر كاذباً فلم يحصل التنفير انتهى.
قال أبو الليث ـ رحمه الله ـ روي أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : قال سليمان بن داود عليهما السلام :"لأطوفن الليلة على مائة امرأة كل امرأة تأتي بغلام يقاتل في سبيل الله ونسي أن يقول إن شاء الله فلم تأتتِ واحدة منهن بشيء إلا امرأة بشق غلام" فقال النبي عليه السلام :"والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لولد له ذلك" وذلك أن من لم يعلق فعله بمشيئته تعالى فإن من سنته أن يجرى الأمر على خلاف مشيئته ليعلم أن لا مشيئة في الحقيقة إلاتعالى وفي الحديث :"إن من تمام إيمان العبد أن يستثني في كل حديثه" أي : سواء كان ذلك باللسان والقلب معاً أو بالقلب فقط فإن مجرد الاستثناء باللسان غير مفيد، وفي "المثنوي" :
ترك استثناء مرادم قسوتيست
نى همين كفتن كه عارض حالتيست
اي بسا نا ورده استثنا بكفت
جان او باجان استثناست جفت
ومن لطائف "روضة الخطيب" أنه سئل رجل إلى أين؟ فقال : إلى الكناسة لأشتري حماراً فقيل : قل إن شاء الله فقال : لست أحتاج إلى الاستثناء فالدراهم في كمي والحمير في الكناسة فلم يبلغ الكناسة حتى سرقت دراهمه من كمه فرجع فقال رجل : من أين؟ قال : من الكناسة إن شاء الله سرقت دراهمي إن شاء الله.